يحيى الغزال
اسمه: يحيى بن الحكم، أو يحيى بن حكم، ويُلقَّبُ بـ”الغزال”؛ لوسامته وظَرفه. وأصله من مدينة جيَّان الأندلسية، ويُنسبُ إلى أسرة تنتمي إلى بكر بن وائل، فهو إذًا من أصلٍ عربيٍّ خالصٍ. وُلِدَ هذا الشاعر سنة مائة وستٍّ وخمسين من الهجرة، ونشأ نشأةً علميةً أدبيةً، وظهرت موهبةُ الشعرِ عليه وأكثر منه، واشتُهر به.
كان للغزال من المواهب الخُلُقية والخَلْقية ما جعله يُرشَّحُ ويُختارُ لبعض الأعمال الكبيرة في إمارة قُرطبة في عهد عبد الرحمن الأوسط، وقد كان في حياته كثيرٌ من المواقف الطريفة التي وقف عندها المؤرخون للأدب الأندلسي، والمؤرخون لحياة هذا الشاعر، من ذلك مثلًا: أن الأمير عبد الرحمن ولَّى هذا الشاعر قبض ما يُسمَّى بالأعشار، وهو نوعٌ من الضرائب كانت تُفرض على ما تُنتجه الأرض.
وتصادف أنه لما تولَّى هذه المهمة قلَّ المحصول، وارتفع سعر الحاصلات الزراعية؛ فباع الغزال -هذا الشاعر- ما حصَّله من حاصلات كان قد جباها، وأخذ ثمنها، فلما علم الأمير بذلك غضب وقال: إننا نستثمرُ ذلك وندَّخره ونُعدُّه لنفقات الجند والحاجة عند الجهد، وأمر بأن يُؤخذ من الغزال الثمن الذي باع به الحاصلات، وتَصَادف أنه في ذلك الوقت كان الطعام قد كثر، والحاصلات رخصت أسعارها؛ فرفض الغزال أن يدفع ثمن ما أخذه من الحاصلات التي باعها، وقال: إنما أشتري لكم من الطعام عددَ ما بِعتُ من المحاصيل، فلما علم الأمير بذلك سجنه، وقد كتب الشاعر من محبسه في قرطبة قصيدةً ضمنها الاعتذار للأمير وتبريرًا لتصرفه، وقال فيها:
مَن مُبلِغٌ عَنّي إِمامَ الهُدى | * | الوارِث المَجد أَبًا عَن أَبِ |
أنّي إِذا أَطنَبَ مُدّاحُهُ | * | قَصَدتُ في القَولِ فَلَم أُطنِبِ |
لا فَكَّ عَنّي اللَهُ إِن لَم تَكُن | * | أَذكَرتَنا مِن عُمرَ الطَيِّبِ |
قَد حَنَّ وَأَصبَحَ المَشرِقُ مِن شَوقِهِ | * | إِلَيكَ قَد حَنَّ إِلى المَغرِبِ |
مِنبَرهُ يَهتِفُ مِن وَجدِهِ | * | إِلَيكَ بِالسَهلِ وَبِالمرحَبِ |
أَطرَبَهُ الوَقتُ الَّذي قَد دَنا | * | وَكانَ مِن قَبلِكَ لَم يَطرَبِ |
هَفا بِهِ الوَجدُ فَلَو مِنبَرٌ | * | طارَ لوافى خَطفَةَ الكَوكَبِ |
إِلى جَميلِ الوَجهِ ذي هَيبَةٍ | * | لَيسَت لِحامي الغابَةِ المُغضَبِ |
لا يُمكِنُ الناظِر مِن رُؤيَةٍ | * | إِلّا التِماحَ الخائِفِ المُذنِبِ |
ثم انتهى إلى المشكلة التي حُبس بشأنها؛ فقال:
إِن تُرِدِ المالَ فَإِنّي امرِؤٌ | * | لَم أَجمَعِ المالَ وَلَم أَكسَبِ |
إِذا أَخَذتُ الحَقَّ مِنّي | * | فَلا تَلتَمِس الرِبحَ وَلا تَرغَبِ |
قَد أَحسَنَ اللَهُ إِلَينا مَعًا | * | أَن كانَ رَأسُ المالِ لَم يَذهَبِ |
وقد عفا عنه الأمير بعد سماعه هذا الشعر، وأسند إليه بعد ذلك بعض المهام الجليلة، وكان من أهمِّ هذه المهمات التي تولَّاها: أن الأمير أوفده في سفارة إلى إمبراطور بيزنطة، وقد قام الغزال بسفارة قرطبة لدى إمبراطور البيزنطيين خير قيام، ومكَّنه من ذلك مواهبه الخُلُقية والخلْقية؛ إذ كان متمتعًا بكثير من الذكاء والفطنة، وموهبة الشعر، وكان مع ذلك حسن الوجه جميل المحيَّا. فهذه مؤهلات تجعل الأمراء وأولي الأمر يختارون من يُمثِّلهم في البعثات والسفارات يتمتعون بهذه الصفات.
وكان يصحبه في تلك السفارة عالمٌ أندلسي يُسمَّى يحيى بن حبيب، لكن شخصية يحيى الغزالي هي التي استحوذتْ على الأضواء في هذه السفارة، وهي التي وردتْ عنها الأخبار، ولشعره بالتأكيد فضلٌ كبيرٌ في ذلك، فقد رَوَوْا أن البحر هاج، والغزال وصاحبه يركبان السفينة في اتجاه بيزنطة، وبيزنطة هذه هي القسطنطينية، كانت في ذلك الوقت إمبراطوريةً مسيحيةً، وفُتحت هذه الإمبراطورية بعد ذلك، فتحها القائد العثماني المسلم محمد الفاتح، ولمَّا هاج البحر وهما في السفينة متَّجهين إلى القسطنطينية، واستشعرا الخطر، واشتدَّت العاصفة، وعلا الموج قال الغزال مخبرًا بذلك ومصورًا ما حدث:
قالَ لي يَحيى وَصِرنا | * | بَينَ مَوجٍ كَالجِبالِ |
وَتَوَلَّتنا رِياحٌ | * | مِن دَبورٍ وَشَمالِ |
شَقَّتِ القِلعَينِ وَاِنبتت | * | عُرى تِلكَ الحِبالِ |
وَتَمَطّى مَلَكُ المَوتِ | * | إِلَينا عِن حِيالِ |
فَرَأَينا المَوتَ رأيَ | * | العَينِ حالًا بَعدَ حالِ |
لَم يَكُن لِلقَومِ فينا | * | يا رَفيقي رَأسُ مالِ |
“قال لي يحيى” المراد به هنا: يحيى بن حبيب العالم الذي كان معه.
ونجا الغزال وصاحبه، ووصل إلى القسطنطينية، واستقبلهما الإمبراطور البيزنطي، وأخبر الغزال بتقاليد بلاط بيزنطة، وكانت هذه التقاليد تقضي بأن يدخل الزائر على الإمبراطور ساجدًا، وهنا وجد الشاعر نفسه في مَأْزَق، فهو المسلم الذي لا يسجد إلا لله، رفض الغزال ذلك التقليد، واشترط ألا يخرج هو وصاحبه عن شيء من سُننهما، ووفِق على ذلك، ولكن المسئولين في بلاط القسطنيطينية تحايلوا؛ فجعلوا المدخل المؤدِّي إلى الإمبراطور منخفضًا أي: جعلوا الباب الذي يدخل منه منخفضًا حتى يُجبر على الركوع، ويحني ظهره؛ ليمرَّ من هذا الباب، فلما جاء الغزال للدخول على الإمبراطور ورأى الباب كذلك؛ جلس على إليتيه ومدَّ قدميه وزحف حتى دخل من الباب، ثم استوى قائمًا، ثم حيَّا الإمبراطور بكلمة تُرجمت له، فأعجب بها وقال: هذا حكيمٌ من حكماء القوم، وداهيةٌ من دهاتهم، أردنا أن نُذلَّه، فقابل وجوهنا بنعليه.
وهذا التصرف بهذا الشكل في مثل هذه المواقف يدلُّ على ذكاء عجيب، وتصرُّف غريب، والذين تُناط بهم مثل هذه المهام لا بد أن يكونوا من أصحاب الحيل، ومن أصحاب الذكاء؛ حتى لا يتورطوا في مواقف تُحسب عليهم، وتحسب على الدول التي أوفدتهم؛ فاستطاع الغزال بذلك ألا يركع ولا يسجد، وألا يقع في محظورٍ يحرِّمه عليه دينه، واحتال للأمر، وتصرَّف هذا التصرف الذكي العجيب، يقولون: إن الغزال في هذه السفارة مكث هناك بعض الوقت، وخُصِّص له مكانٌ يُقيم فيه، وتعرَّف على الإمبراطورة زوجة الإمبراطور، ويقولون: إنها أعجبت بذكائه وجماله، وأنه كذلك أُعجب بجمالها، وقال فيها بعض الشعر الذي يُصوِّر إعجابه بها، وإعجابه بجمالها، وما كان من وُدٍّ بينه وبينها.
وفي أخبار هذا الشاعر أنه لما عاد من رحلته إلى قرطبةَ، وجد المغنِّي المشرقي المعروف بزرياب يتمتَّع بنفوذٍ كبير عند الأمير عبد الرحمن الأوسط في قرطبة والأندلس جميعًا، فهجاه غَيْرة منه، ووصل ذلك الهجاء إلى مسامع الأمير، وكان يُؤْثر زريابًا ويخصُّه بالعطف؛ فغضب على الغزال، وقرَّر نفيه، لكن بعض المقربين من الأمير شفع للغزال؛ فعفا عنه الأمير، لكنه ضاق بالحياة في الأندلس بعد ذلك ورحل إلى المشرق.
وهناك التقى بتلاميذ أبي نواس، وكان ذلك بعد موت أبي نواس بقليل، ووجد هؤلاء التلاميذ يُقدِّمون أبا نواس وشعره، وأخذ الغزال يُسمعهم شعره فلا يجد منهم استحسانًا له، وفي مرة قال لهم: إني سأسمعكم أبياتًا لأبي نواس، فأسمعهم أبياتًا فأُعجبوا بها أشدَّ الإعجاب، ثم أخبرهم أن هذه الأبيات له، وليست لأبي نواس، وأكمل لهم قصيدته حتى ينتزع منهم الإعجاب بفنه وشعره.
لكنه -على أيِّ حال- عاد بعد ذلك إلى الأندلس، ومال إلى الزهد في آخر حياته، ومات عن عُمرٍ يُقارب المائة، وكان ذلك سنة مائتين وخمس وخمسين من الهجرة تقريبًا، وتنقسم حياة الغزال الشعرية إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: هي مرحلة الشباب، وتغلب على شعره في تلك المرحلة موضوعات الخمر، والغزل، والفكاهة، والمجون.
المرحلة الثانية: مرحلة الكبر، والتعقل، والنضج، وتغلب على شعره فيها موضوعات النقد الاجتماعي، والأخلاقي، الذي ينتج عن عمق الوعي، وكثير التجارب، ومعرفته بعيوب الناس، وما في الحياة من مشكلات، وعيوب المجتمع، والشاعر في هذه المرحلة يقول: الشعر المشبع، أو المتشبِّع بروح السخرية، والإحساس بالمرارة، وأحيانًا يغلب عليه شيء من التشاؤم حتى لا يرى كثيرًا من الخير في الناس، من ذلك مثلًا قوله:
لا وَمَن أَعمَلَ المَطايا إِلَيه | * | كُلُّ مَن تَرتَجي إِلَيهِ نَصيبا |
ما أَرى هَهُنا مِنَ الناسِ إِلّا | * | ثَعلَبًا يَطلُبُ الدَجاجَ وَذيبا |
أَو شَبيهًا بِالقِطِّ أَلقى بِعَيْنَيْهِ | * | إِلى فَأرَةٍ يُريدُ الوُثوبا |
فالناس في نظره كلهم متربصٌ بالآخر، فهم مثل الثعالب التي تطلب الدجاج، ومثل الذئاب التي تطلب النعاج، ومثل القطط التي تطلب الفئران، وكان له رأيٌّ في هذه المرحلة، رأيٌّ سيء في المرأة، فمن ذلك مثلًا قوله:
يا راجِيًا وُدَّ الغَواني ضلَّةً | * | فَفُؤادُهُ كَلفًا بِهِنَّ مُوَكَّلُ |
لا تكلفَنَّ بَوَصلِهِنَّ فَإِنَّما | * | الكَلفُ المُحِبُّ لَهُنَّ مَن لا يَعقِلُ |
ويمضي في هذا الشعر يذكر أن المرأة لا تفي، وذلك رأيه الخاص به لا يصح تعميمه؛ لأن في ذلك ظلمًا للمرأة على أية حال، وفي شعره -أيضًا في آخر حياته- يقول:
أَلَستَ ترى أَنَّ الزَمانَ طَواني | * | وَبَدَّلَ خَلْقي كُلَّهُ وَبَراني |
تَحَيَّفني عُضوًا فَعُضوًا فَلَم يَدَع | * | سِوى اِسمي صَحيحًا وَحدَهُ وَلِساني |
وَلَو كانَت الأَسماءُ يَدخُلُها البِلى | * | لَقَد بَلِيَ اسمي لِاِمتِدادِ زَماني |
وَما لِيَ لا أَبلى لِتِسعينَ حجَّةً | * | وَسَبعٍ أَتَت مِن بَعدِها سَنَتانِ |
إِذا عَنَّ لي شَخصٌ تخَيَّل دونَهُ | * | شَبيه ضَبابٍ أَو شَبيهُ دُخانِ |
فَيا راغِبًا في العَيشِ إن كُنت عاقِلًا | * | فَلا وَعظَ إِلّا دونَ لَحظِ عِيانِ |
وهو هنا يصف ما أحدثه الزمن بهيئته بعد أن كبرت سنه، وضعف جسمه، وذهبت قوَّته. ومن شعره الذي يسخر فيه من أهل اليسار والغنى، الذين يشيِّدون قبورهم كالقصور يقول:
أَرى أَهلَ اليَسارِ إِذا تُوفوا | * | بَنَوْا تِلكَ المَقابِرَ بِالصُخورِ |
أَبَوا إِلّا مُباهاةً وَفَخرًا | * | عَلى الفُقراءِ حَتّى في القُبورِ |
رَضيتُ بِمَن تَأَنَّقَ في بَناه | * | فَبالَغَ فيهِ تَصريف الدهور |
أَلَمّا يُبصِروا ما خَزَّبَتهُ الدُهورُ | * | مِنَ المَدائِنِ وَالقُصورِ |
لَعَمرُ أَبيهِمُ لَو أَبصَروهُم | * | لَما عُرِفَ الغَنِيُّ مِنَ الفَقيرِ |
وَلا عرَف العَبيدَ مِنَ المَوالي | * | وَلا عُرف الإِناثَ مِنَ الذُكورِ |
وَلا مَن كان يَلبِسُ ثَوبَ | * | صوفٍ مِنَ البَدَنِ المُباشِرِ لِلحَريرِ |
إِذا أَكَلَ الثَرى هَذا وَهَذا | * | فَما فَضلُ الغَني عَلى الفَقيرِ |
وتتسم أشعار هذا الشاعر الأندلسي الكبير بخصائص؛ منها: الاتجاه إلى القص والحوار، والميل إلى التحليل والتعليل، والتشبع بروح السخرية والنقد، وإيراد الفكرة المبتكرة والصورة الجديدة من حين إلى حين، واتضاح النظرة الحكيمة واللمحة الفلسفية. وله بعض الأشعار التي تتَّسم بهذه السمات، وتجسِّدها حتى لو كانت تنحو منحى السخرية، من ذلك قوله في مشكلة زواج الفتاة الصغيرة من الشيخ الكبير يقول بأسلوب قصصي أيضًا:
وَخَيَّرَها أَبوها بَينَ شَيخٍ | * | كَثيرِ المالِ أَو حَدَثٍ فَقيرِ |
فَقالَت خُطَّتا خَسفٍ وَما | * | إِن أَرى مِن خُطوةٍ لَلمُستَخيرِ |
وَلَكِن إِن عَزَمتُ فَكُلُّ شَيءٍ | * | أَحَبُّ إلي مِن وَجهِ الكَبيرِ |
لِأَنَّ المَرءَ بَعدَ الفَقرِ يُثري | * | وَهَذا لا يَعودُ إلى صَغيرِ |
ومن شعره الساخر اللاذع جدًّا قوله في رجل يُسمى أبا حازم:
سأَلتُ في النومِ أَبي آدَمًا | * | فَقُلتُ وَالقَلبُ بِهِ وامِقُ |
ابنُكَ بِاللَهِ أَبو حازِمٍ | * | صَلّى عَلَيكَ الملِكُ والخالِقُ |
فَقالَ لي إِن كانَ مِنّي | * | وَمِن نَسلي فَحَوّا أُمُّكُمُ طالِقُ |
هذا من شعر السخرية اللاذع جدًّا.
ومن لمحات الحكمة في شعره -والحكمة هنا معناها التجربة التي جرَّبها في الحياة، واستخلص منها ما يراه عبرة- يقول:
قالَت أُحِبُّكَ قُلتُ كاذِبَةٌ | * | غُرّي بِذا مَن لَيسَ يَنتَقِدُ |
هَذا كَلامٌ لَستُ أَقبَلُهُ | * | الشَيخُ لَيسَ يُحِبُّهُ أَحَدُ |
سَيّان قَولُكِ ذا وَقَولُكِ | * | إِنْ الريحَ نَعقِدُها فَتَنعَقِدُ |
أو أن تَقولي النارُ بارِدَةٌ | * | أو أن تَقولي الماءُ يَتَّقِدُ |
فحبُّ الفتاة للرجل الكبير في نظره شيءٌ مستحيلٌ لا يصدق. وبهذه النماذج التي أوردتها لك تستدلُّ على شخصية هذا الشاعر والسمات الغالبة على شعره.