10.3 حقوق المرأة الاجتماعية.
لا شك أن الله -تبارك وتعالى- خص المرأة أمًّا بمزيد العناية والرعاية، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عني ببيان ما للأم من فضل وفضيلة، ومنزلة عالية رفيعة، حتى رأينا الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز، يخص الأم بالذكر فيقول: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان: 14]، ((وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ)) أي: عهدنا إليه وجعلناه مأمورًا بأن يستوصي خيرًا بوالديه؛ بالإحسان إليهما, بلين الكلام ولطيف العبارة, وبالفعل الجميل وبالتواضع لهما، ثم جاءت الوصية بالضعيف من هذين ألا وهي “الأم”، فقال جل من قائل: ((حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ))، أي: مشقة على مشقة، وضعفًا على ضعف، فلا تزال الأم تلاقي المشاق من يوم أن يعلق بها هذا الحمل جنينًا، حتى يخرج إلى الحياة وليدًا، فإذا خرج للحياة وليدًا عانت في تربيته وفي إقامته وفي حفظ صحته وفي حماية بدنه وعقله ما تعاني؛ ولذلك ذكر الله تعالى المدة الأولى من الرعاية، لكثرة ما فيها من الأعباء، وشدة ما فيها من المشاق، فقال جل من قائل: ((وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ))، وهذان العامان من أشد ما تلقى الأمُّ من العنت والتعب والمشقة، رعاية لهذا الوليد الذي لا يملك من أمره شيئًا، ورأينا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما أخرج ذلك البخاريُّ ومسلم، من طريق أبي عمرو الشيباني، قال: ((أخبرنا صاحب هذه الدار وأومأ بيده إلى دار عبد الله، ثم قال: سألت النبي -صلى الله عليه وآله: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني))، يقول الطبري: إنما ذكر هذه الثلاث خصال وخصها بالذكر؛ لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات.
وقد أخرج البخاري أيضًا في (صحيحه) في كتاب الأدب، وكذا مسلم في (صحيحه) في كتاب البر، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: يا رسول الله, من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)). ومقتضى هذا أن يكون للأم من البر ثلاثة أضعاف ما للأب من البر؛ لأنه أوصى بها ثلاث مرات، وأوصى بالوالد مرة واحدة؛ لما كانت تلقى من صعوبة في حملها، ولما كانت تجد من مشقة في الرضاع، ولما كانت تعاني من تعب ونصب في التربية.
إذن: الأم صاحبة حق عظيم على أولادها، فالجنة إذًا تحت أقدامها، وهذا الحق للأب والأم، وللأم خاصة، سواء كان على الإسلام أم كان على الشرك، فإنه يجب بر الأم ولو كانت مشركة، قال جل من قائل: ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)) [لقمان: 15].
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: ((أتتني أمي راغبة في عهد النبي -صلى الله عليه وآله- فسألت النبي -صلى الله عليه وآله: أصلها؟ قال: نعم، أي: صلي أمك))، ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) [الممتحنة: 8]، كما ورد ذلك في الآية.
وعقوق الأم من أكبر الكبائر عياذًا بالله، وقد جاء النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، والنهي عن عقوق الأمهات، كما ورد هذا في حديث المغيرة عنه -صلى الله عليه وآله- أنه قال: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))، وهذا لفظ البخاري.
وخص الأمهات بالذكر، فقال: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)), قال العلماء في ذلك: لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه أيضا على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك.
وأما المرأة بنتًا فقد خصها الإسلام بأمور كثيرة، فجاء الأمر بالإحسان إلى البنات، كما جاء الأمر بالتسوية بين الذرية في العطاء، وجاء التنبيه على حرية البنت في اختيار زوجها وأنها صاحبة حق في قبول من تتزوج به، بكرًا كانت أم ثيبًا. كما جاء تحريم العضل (أي: أن يعضل الأولياء الموليات، وأن يعضل الآباء البنات)؛ لأن في هذا تعديا على حقوقهن، والعضل: هو أن يمنع الولي البنت من زواج من هو كفء لها وبمهر مثلها.
أما الأمر بالإحسان إلى البنات فقد جاء في غير ما حديث، وقد أخرج البخاري في (صحيحه) في كتاب الأدب في باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، كذا مسلم في (صحيحه) في كتاب البر والصلة والآداب من باب فضل الإحسان إلى البنات، من حديث عائشة زوج نبينا -صلى الله عليه وآله- قالت: ((جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل عليّ النبي -صلى الله عليه وآله- فحدثته حديثها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: من ابتلي من البنات من شيء فأحسن إليهن؛ كنَّ له سترًا من النار))، وهذا لفظ مسلم.
وأما ما يتعلق بالعطية والتسوية فيها, فقد ورد الحديث في (الصحيحين): ((أن النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنه- أعطاه أبوه شيئًا خصه به، ثم إن زوجه اعترضت عليه في هذه العطية، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحمل ابنه معه، فقال: إني نحلت بابني هذا غلامًا، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فأرجعه))، وأخرج من طريق الشعبي قال: ((سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله، (وعمرة هذه هي أمه رضي الله تعالى عنهم أجمعين)، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: إني أعطيت ابني هذا من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته)) واللفظ للبخاري.
وقد ذهب إلى وجوب التسوية في العطية طائفة من أهل العلم، منهم البخاري وأحمد والظاهرية، وطائفة من السلف، وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن التسوية مندوبة وليست واجبة، وأنه إن فضل بعض أولاده في العطية صح وكره.
ثم إن الذين قالوا بوجوب التسوية، قالوا: هل التسوية أن تكون بأن يأخذ الولد كما تأخذ البنت؟ أو أن تأخذ البنت كما يأخذ الولد؟ أم أن التسوية تقتضي أن تأخذ البنت نصف ما يعطاه الذكر؟ بهذا قال طائفة من أهل العلم وبهذا قال طائفة، لكن المقصود أن يعطى الرجل كالرجل، وأن تعطى البنت كالبنت، وأما فيما يتعلق بما يعطاه الولد والبنت فطائفة مالت إلى أن التسوية تقتضي أن تأخذ البنت كما يأخذ الولد، وطائفة قالت: بل تأخذ البنت نصف ما يأخذه الولد.
وأما حق البنت في أن تختار زوجها فهذا مما أكده الإسلام، وقد احترم الإسلام رأي المرأة في هذا الموطن، فثبت في حديث البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب أم هانئ بنت أبي طالب، ((فقالت: يا رسول الله, إني قد كبرت ولي عيال، فقال رسول الله: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)) واللفظ لمسلم.
فهذه المرأة اعتذرت للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن بلوغ أعظم منزلة تبلغها امرأة حين تكون أمًّا للمؤمنين، وأن ترتبط برسول رب العالمين، ومع ذلك أكبر النبي -صلى الله عليه وسلم- رأيها إكبارًا عظيمًا، حتى إنه قلد قريشًا بأثرها قلادة الشرف، ووضع على صدور نسائها وسام الفخر حين قال: ((خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)).
وأخرج البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن))، فالأيم هي التي مات زوجها أو فقدت زوجها بطلاق ونحوه، وأما البكر فهذه التي لم يسبق لها زواج، فالأيم لا تنكح حتى يطلب أمرها، وحتى يعرف أنها تأمر بتزويجها من فلان، وأما البكر فإنها تستأذن؛ لأن البكر معرفتها بالرجال دون معرفة الثيب.
وأخرج -رضي الله تعالى عنهما- من حديث عائشة: ((أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن جارية ينكحها أهلها؛ أتستأمر أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم تستأمر، فقالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحيي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها إذا هي سكتت))، غير أن في المسألة تفاصيل يذكرها الفقهاء في كتبهم, وليس بنا حاجة إلى أن نخوض فيها في هذا المقام.
أما حق المرأة في أن تزوج وألا يعضلها وليها، فقد ثبت هذا في كتاب ربنا، حيث قال جل من قائل: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 232]، قوله: “فلا تعضُلوهن” أي: لا تمنعوهن من العودة إلى نكاح من اختارته هذه المرأة، وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه البخاري في (صحيحه) من كتاب النكاح في قول الله تعالى: ((فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ))، أنها نزلت في معقل بن يسار، حيث قال: (زوجت أختًا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها! لا والله, لا تعود إليك أبدا)، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ))، فقال معقِل بن يسار -رضي الله عنه- حين نزلت: (الآن أفعل يا رسول الله)، فزوجها إياه مرة ثانية.
وأما حق المرأة زوجة فحدث عنه ولا حرج، فقد أوجب الإسلام لزوم الإحسان إليها وعشرتها بالمعروف، وجاء الأمر بذلك في كتاب الله: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)) [النساء: 19]، وكما جاء الأمر بعشرتها بالمعروف، جاء حقها في أن تنال من المتعة ما ينال الرجل، وأن تأخذ حقها من المعاشرة كما يأخذ الرجل، وألا يترك الزوج نكاح زوجته ولا جماع زوجته فوق أربعة أشهر، وألا يسافر سفرًا بعيدًا إلا بإذنها.وجاء الأمر أيضًا بحسن التعامل والتوادّ والتحابب كما في حديث مسلم: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))، ولها حقها في الحضانة، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام: ((أنتِ أحق به ما لم تنكحي))، أي: المطلقة أحق بولدها الذي في حضانتها ما لم تنكح زوجًا غير الذي طلقها، ولها حقوق كثيرة، فمن حقوقها أن تحفظ من الأنكحة الفاسدة، ولها حقوق معنوية قبل الحقوق المادية، وهي كثيرة شهيرة مذكورة.