Top
Image Alt

12.2 الحرص على العمل والعمال أمر سبق به الإسلام سائر الملل والنحل والمذاهب الوضعية

  /  12.2 الحرص على العمل والعمال أمر سبق به الإسلام سائر الملل والنحل والمذاهب الوضعية

12.2 الحرص على العمل والعمال أمر سبق به الإسلام سائر الملل والنحل والمذاهب الوضعية

إذا أردنا أن ننتقل إلى الكلام عن “حقوق العمال في الإسلام”, فإنّا نرى أن الإسلام قد سبق غيره من سائر النظم وتلك التشريعات في حفظ حق العمال، بل إننا نجد الإسلام نزل رتبة عن العامل الحر إلى العامل المملوك، فوجدنا الإسلام يحفظ حق المملوك، ويقدم حق المملوك، ويحمي حقوق المملوك، ويقررها تقريرًا لا مزيد عليه، وهو قد ملكت رقبته لغيره من أهل الأرض، فكيف ستكون حماية الإسلام لحق عامل حرّ له ما لمستعمله من الحقوق سواء بسواء؟

إنّ المملوك هو ذلك الرقيق الضعيف الذي يعجز عن أن يتصرف في نفسه، أو يعجز عن أن يتصرف في ماله، أو يعجز عن أن يتصرف إلا بإذن سيده، ومع هذا رأينا الإسلام يحمي حرمة دمه؛ فعن سمرة قال: قال -صلى الله عليه وآله: “من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه”، وفي رواية أخرى: “من أخصى عبده أخصيناه”، وهذا عند النسائي وغيره، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم بتضعيف إسناده.

قال الصنعاني: “والحديث دليل على أن السيد يقاد بعبده في النفس والأطراف؛ إذ الجدع قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة، ويقاس عليه إذا كان القاتل غير السيد بطريق الأولى”، والمسألة فيها خلاف, وإلى ذلك ذهب بعض العلماء مستدلين بهذا الحديث وبقوله تعالى: ((النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)) [المائدة: 45]، وإن كان أكثر العلماء قد ذهبوا إلى أن السيد المالك لعبده لا يقتل بعبده، وأن طرف الحر لا يقطع بطرف العبد، ونحو ذلك من التفاصيل الفقهية، إلا أننا نشير فقط إشارة إلى حرمة الدم، وهذا ثابت متحقق.

والخلاف في: كيف يستوفى القصاص من الفاعل, إذا كان المجني عليه عبدًا مملوكًا؟ وقد ورد أن رجلًا قتل عبده متعمدًا، فجلده النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة جلدة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة، فهذا يدل على أن دم الرقيق مصون، وأن حرمته موفورة، وأنه لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه في نفسه ولا في أطرافه، وفيه الدية إذا جنى إنسان على عبد غيره.

وكما حرم الإسلام دم العبد المملوك فقد حرم عرضه أيضا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: ((من قذف مملوكه بالزنا؛ يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال))، وهذا في البخاري ومسلم. هذا دليل على أنه لا يحد مالك العبد إذا قذفه، وإذا كان داخلًا تحت عموم آية القذف بناء على أنه لم يرد بالإحصان الحرية ولا التزوج، وهو لفظ مشترك يطلق على الحر وعلى المحصن وعلى المسلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه يحد لقذفه مملوكه يوم القيامة، ولو وجب حده في الدنيا لم يجب حده في الآخرة، إذ قد ورد أن هذه الحدود كفارات لمن أقيمت عليه.

والحاصل: أنّ الإجماع منعقد على أنه لا يحد السيد إذا قذف عبده بالزنا، لكنه يحد في الآخرة، وهذا يدل على حرمة عرض العبد؛ فإنه يستقيد من مالكه يوم القيامة بين يدي ربه -تبارك وتعالى.

ثم رأينا أنّ الإسلام يرغب في العتق, ويبين أنه سبب لدخول الجنة، كل هذا لحفظ حق العبد وتحويله إلى حر؛ ذلك أن الإسلام متشوف لإعتاق العبيد وإنهاء الرق، فجعل إعتاق العبيد سببًا لدخول الجنة، فعن البراء بن عازب قال: ((جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: لئن قصرت في الخطبة لقد عرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة، قال: يا رسول الله, أهما سواء؟ قال: لا, عتق النسمة أن تنفرد بها, وفك الرقبة أن تعين في ثمنها))، وعتق الأرقاء: هو إنقاذ لكل عضو من أعضاء المعتق من النار.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل أعتق امرأً مسلمًا؛ استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا منه في النار))، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((من أعتق رقبة؛ أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه)) هذا متفق عليه.

ولقد رأينا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يوصي بالأرقاء, فجعل هذا من آخر وصاياه عند الموت، فعن علي -رضي الله عنه- قال: ((كان آخر كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم))، والمعنى: أنه يريد الإحسان إلى الرقيق، ويريد التخفيف عنهم، وإنما قرنه بالصلاة ليعلم أن القيام بمقدار حاجتهم من الكسوة والطعام واجب على من ملكه وجوب الصلاة التي لا سعة في تركها، فالوصية بهم ليس فقط بمشربهم أو بمطعمهم أو بملبسهم، ولكن الوصية أيضًا بتعليمهم وتأديبهم؛ ولهذا جاء في الحديث عن أبي بردة عن أبيه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة لهم أجران؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها, فله أجران)).

قال العيني: “أدبها من غير عنف وضرب، بل بالرفق واللطف، فإن قلت: أليس التأديب داخلًا تحت التعليم؟ قلت: لا؛ إذ التأديب يتعلق بالمروءات والتعليم يتعلق بالشرعيات، أعني: أن الأول عرفي والثاني شرعي، أو أن الأول دنيوي والثاني ديني”. انتهى كلام العيني من (عمدة القاري) في تعليقه على (صحيح البخاري).

ثم إن من حقوق العمال سواء كانوا أرقاء أم غير أرقاء، ألا يكلفوا من العمل ما لا يطيقون وأن يعانوا إذا كلفوا، فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)) وهذا عند مسلم وغيره، وفي رواية أخرى: ((ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم)) وهذا متفق عليه.

قال الإمام النووي -رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره، ومن الحقوق البدهية إطعامهم وإشرابهم من مطعمه ومشربه، وألا يحبس القوت عنهم، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وقد كانت وصيته في حجة الوداع تتعلق بهؤلاء، فعن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال في حجة الوداع: ((أرقاءكم أرقاءكم أرقاءكم، أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، فإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه، فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم)). وهذا حديث أخرجه الإمام أحمد, وصححه المحقق الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله.

وقد علق النووي على هذا الحديث فقال: الأمر بإطعامهم مما يأكل السيد وإلباسهم مما يلبس، محمول على الاستحباب لا على الإيجاب، وهذا بإجماع، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف، بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان خارجًا عن عادة أمثاله إما زهدًا وإما شحًّا، لا يحل له التقتير على المملوك، فالحاصل أن الإجماع من أهل العلم منعقد على وجوب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلدة، وكذا الإدام والكسوة، وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل المشاركة.

بل من حقوق هذا العامل وهذا الخادم وهذا العبد المملوك، مؤاكلته وإجلاسه معه، فإن لم يكن ذلك فليطعمه من طعامه الذي أحضره، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله: ((إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فيناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي حره وعلاجه)) وهذا متفق عليه.

قال الصنعاني -رحمه الله: فيه بيان أن الحديث الذي فيه الأمر بأن يطعمه مما يطعم، وليس المراد به مؤاكلته ولا أن يشبعه من عين ما يأكل, بل يشركه فيه بأدنى شيء, ولو بلقمة أو لقمتين، بل ولا ينبغي للسيد أن يتصدق إلا بما فضل عن قوتهم “أي: قوت مماليكه بعد قوت أهله وعياله”، فعن خيثمة قال: ((كنا جلوسًا مع عبد الله بن عمرو, إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثمًا, أن يحبس عمن يملك قوته)). وفي لفظ أبي داود: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت))، والمعنى: كأنه قال للمتصدق: لا تتصدق بما لا فضل فيه عن قوت أهلك تطلب به الأجر، فينقلب ذلك إثمًا إذا أنت ضيعته، فالحديث يدل على التنفير من تصدق الشخص بما لا يزيد عن نفقة من تلزمه نفقته، وعلى عظيم من فعل ذلك من الإثم.

ولا يجوز أن يعير أحدهم بما يعرفه عنه من نسب أو من غيره، فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر عن ذلك، فعن المعرور بن سويد قال: ((مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر, لو جمعت بينهما كانت حلة (يعني: لو جمعت بين هذا الذي عليك وعلى غلامك, فلبسته مرة واحدة كانت حلة) فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلقيت النبي -صلى الله عليه وآله- فقال: يا أبا ذر, إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر, إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).

وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز الاعتداء على العمال بضرب أو تنكيل أو تمثيل، فقد حذر النبي -صلى الله عليه وآله- من ذلك, وجعل كفارة من فعل هذا بعبده أن يعتقه، ((فهذا ابن عمر قد أعتق مملوكًا، فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا فقال: ما فيه من الأجر ما يسوي هذا إلا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من لطم مملوكه أو ضربه, فكفارته أن يعتقه)) وهذا عند مسلم وغيره.

وقد طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالكفارة، وهي الإعتاق لمن لطم مملوكه؛ ((فعن سويد بن مقرن أن جارية له لطمها إنسان، فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة، فقال: لقد رأيتني وإني لسابع إخوة لي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما لنا خادم غير واحد، فعمد أحدنا فلطمه، فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نعتقه)) والحديث في مسلم.

وهذا ما فعله الصحابي أبو مسعود -رضي الله عنه- ((فعن أبي مسعود الأنصاري قال: كنت أضرب غلامًا لي, فسمعت من خلفي صوتًا يقول: اعلم أبا مسعود، قال ابن المثنى مرتين (يعني سمع صوتًا يقول: اعلم أبا مسعود, اعلم أبا مسعود) لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى، قال: أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار، أو قال: لمستك النار))، فهذا يدل على خطورة التعدي على أبدانهم وعلى أعراضهم وعلى خلقتهم التي خلقهم الله تعالى عليها، وهو ينهى أيضًا عن الإسراف في عقابهم، فينبغي أن يكون العقاب بقدر الذنب، فإذا كان عقابهم فوق ذنوبهم اقتص الله تعالى لهم من أسيادهم، فعن عائشة: ((أن رجلًا قعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وآله- فقال: يا رسول الله, إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ قال: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل، قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ كتاب الله: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47]، فقال الرجل: والله يا رسول الله, ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدكم أنهم أحرار كلهم)).

بهذا استبان لنا أنّ المساواة في الإسلام مبدأ أصيل، وأن الحرص على العمل والعمال أمر سبق به الإسلام سائر الملل والنحل والمذاهب الوضعية، فكان تقرير هذا الحق حقًّا واضحًا منضبطًا لأهل العمل والعمال, على اختلاف أحوالهم وأجناسهم وألوانهم.

error: النص محمي !!