Top
Image Alt

12.3 دعوة الإسلام إلى حق المساواة بين الناس.

  /  12.3 دعوة الإسلام إلى حق المساواة بين الناس.

12.3 دعوة الإسلام إلى حق المساواة بين الناس.

مبادئ حق المساواة

المساواة مبدأ وحق أقرّه الله تعالى بين عباده جميعًا، وبينه النبي -صلى الله عليه وآله- فلا فرق بين فرد وآخر في هذا الكون إلا بتقوى الله -عز وجل- فساوى الإسلام في النسب، وذمّ التداعي به، أو ذم الطعن فيه، ونهى عن التمييز بين عربي وأعجمي، فساوى في اللون، فلا فرق بين أسود وأبيض وأحمر، وساوى في الجنس فلا فرق بين ذكر وأنثى، وساوى في أصل التكاليف بين المرأة والرجل، وبين السيد والعبد المملوك، ولكن أناط لكل منهما مسئولية تكمل الثاني، وساوى في الأجر، فأجر المصلي كأجر المصلية، وأجر الصائم كأجر الصائمة، وأجر السيد في الآخرة كأجر الخادم، وعندما أثبت الإسلام المساواة نفى التفاضل، وعندما نفى التفاضل حصر التفاضل بأمور معينة محددة، وقد قامت هذه المساواة التي صارت حقًّا متأكدًا على مبادئ وأصول، من هذه المبادئ:

– شمولية المساواة:

فالمساواة التي قررها النبي -صلى الله عليه وآله- ليست من جانب واحد، بل هي شاملة لجميع الجوانب، فقرر مساواةً في الربوبية وفي العبودية، وقرر المساواة في القيمة الإنسانية وأصلها، وقرر المساواة في أصل التكاليف وفي الأجر على العمل، كذا تحققت المساواة في العقوبات، فلو أننا تناولنا هذه الجوانب التي تدل على شمولية المساواة بشيء من التدليل مع الاختصار؛ لكان هذا مناسبًا، فعن أبي نَضْرة قال: ((حدثني من سمع خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق، فقال: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه))، والحديث صححه المحقق أحمد شاكر في تحقيقه (لمسند الإمام أحمد)، وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم واحد وآباكم واحد, فلا فضل لعربي على أعجمي, ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى)).

وهذا التقرير منه -صلى الله عليه وآله وسلم- تقرر في رسالته، بل وقررته الرسل السابقة، فعلى لسان نبي الله -صلى الله عليه وآله- قال تعالى: ((رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)) [الدخان: 8]، وعلى لسان نوح -عليه السلام- قال تعالى: ((هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [هود: 34]، وعلى لسان إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- قال تعالى: ((قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) [الأنبياء: 56]، وعلى لسان موسى -عليه السلام- قال تعالى: ((قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)) [الشعراء: 26]، وعلى لسان هارون قال تعالى: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ)) [طه: 90]، وكذا على لسان إلياس -عليه السلام- قال سبحانه: ((اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)) [الصافات: 126]. والشاهد من هذا قوله -صلى الله عليه وآله: ((إن ربكم واحد)).

قال الإمام الشوكاني -رحمه الله: “مقدمة الحديث مقدمة لنفي فضل البعض على البعض، للحسب والنسب، كما كان في زمن الجاهلية؛ لأنه إذا كان الرب واحدًا، وأبو الكل واحدا، لم يبق لدعوى الفضل بغير التقوى موجب”.

– المساواة في العبودية:

في قوله -عليه الصلاة والسلام: ((وإن دينكم واحد)) تقرير هذه المساواة؛ لأنّ هذه المساواة مقررة في رسالته -صلى الله عليه وآله- قال سبحانه: ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)) [هود: 2]، وكذا كانت الرسل تقول: ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ))، وجاء على ألسنة الرسل كافة على لسان هود وصالح وشعيب -عليهم الصلاة والسلام- قول الله تعالى: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، كما ورد على لسان موسى لقومه في قوله تعالى: ((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)) [طه: 98]، وعلى لسان يوسف -عليه السلام- قال سبحانه: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) [يوسف: 40]، وقوله -عليه الصلاة والسلام: ((وإنّ أباكم واحد))، وقوله في رواية أخرى: ((أبوكم آدم))، هذا يدل على المساواة في أصل النوع الإنساني، وقد تكرر ذلك في كتاب الله في مواضع عديدة، منها قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [النساء: 1]، وقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [الأنعام: 98]. ثم إن المساواة في أصل الخلقة أمر متقرر أيضا، فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن آدم خلق من تراب، وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة التي تدعو الجميع إلى أن يخفض من رأس الكبر والعلياء حين يعلم أن أصله من تراب، قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)) [الروم: 20].

ومن أهم ما تتعلق به المساواة: المساواة في أصل التكاليف الشرعية، فإن الخطاب العام خطاب لم يتعلق بالذكر دون الأنثى, ولم يكن لسيد دون عبد، ولم يكن في باب دون باب، فإن أصل التكاليف الشرعية يستوي فيها الجميع، من حر وعبد، وذكر وأنثى، وكبير وصغير، وشريف وحقير، فإن كانت هناك بعض الأحكام الخاصة ببعض الفئات فإن هذا لضرورة مراعاة جانب هؤلاء الذي دعا إلى تشريع مثل هذه التشريعات، وإلا فإن قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس؛ على أن يعبد الله ويكفر بما دونه, وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))، يشترك فيه الرجال والنساء والأسياد والعبيد، والخطاب كثيرًا ما يوجه للذكور لتدخل فيه الإناث تغليبًا، فإن النساء يدخلن في خطاب الرجال إلا ما دل الدليل على اختصاص الرجال به؛ لأن الخطاب إذا كان بـ”واو” الجماعة، أو بـ”يا أيها الناس”، أو بـ”يا أيها الذين آمنوا”، دخلت النساء وكان الخطاب للرجال تغليبًا لهم على النساء، ((وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجد البلل، فقال: لا غسل عليه، فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال: نعم، إنما النساء شقائق الرجال)), وهذا أخرجه الترمذي وأحمد، وصححه طائفة من أهل العلم، قوله: ((نعم، إنما النساء شقائق الرجال)) أي: نظائرهم وأمثالهم، كأنهم شققن منهم, ولأن حواء خلقت من آدم -عليه الصلاة والسلام- وهذا كما قال العلماء فيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر كان خطابًا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها.

وقد خاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- المرأة كما خاطب الرجل، والعبد كما خاطب السيد في بعض الفرائض، ومن ذلك زكاة الفطر مثلًا، ((فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين)) وهذا متفق عليه.

وفي باب حث الناس على فعل الخير وبذل المعروف والاجتهاد في الطاعة، كان تحفيز النساء على العمل الصالح كتحفيز الرجال سواء بسواء، فعن أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلمًا فهو فكاكه من النار، يجزى بكل عظم منه عظما منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فهي فكاكها من النار, يجزى بكل عظم منها عظمًا منها، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين فهما فكاكه من النار يجزى بكل عظمين منهما عظمًا منه)) وهذا أخرجه الترمذي وصححه بعض أهل العلم.

وهناك أيضًا من باب المساواة: المساواة في الأجر الأخروي، فإنّ المساواة تتحقق في الأجور وإن اختلفت الأحوال والصور والألوان والأشكال، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، أي: إنّما يكون ذلك على ما في القلب دون الصور الظاهرة، و”نظر الله تعالى” رؤيته، وهذه الرؤية محيطة بكل شيء، والمساواة تتحقق أيضا في الأجر وإن اختلف الجنس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) وهذا أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح.

وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((ما من مؤمن ولا مؤمنة, ولا مسلم ولا مسلمة يمرض مرضًا، إلا حطّ الله -عز وجل- بها عنه من خطاياه))، فالأجر هو محو الخطايا، وقد عم به كلًّا من الرجل والمرأة، والمساواة تتحقق في الإسلام وإن اختلفت المنزلة بين حر وعبد.

فقد بين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مضاعفة الأجر للمملوك المصلح، فهذا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله: ((للعبد المملوك المصلح أجران))، قال أبو هريرة: “والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي؛ لأحببت أن أموت وأنا مملوك”, وهذا أخرجه البخاري ومسلم.

وعلق على هذا ابن حجر -رحمه الله- فقال: “واسم الصلاح يشمل ما ذكر في حديث آخر، من الشرطين, وهما: إحسان العبادة، والنصح للسيد، ونصيحة السيد تشمل أداء حقه من الخدمة وغيرها”، وإنما استثنى أبو هريرة هذه الأشياء؛ لأن الجهاد والحج يشترط فيهما إذن السيد، وكذلك برّ الأم، فقد يحتاج فيه إلى إذن السيد في بعض وجوهه بخلاف بقية العبادات البدنية, ولم يتعرض للعبادات المالية إما لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مال يزيد على قدر حاجته، فيمكنه صرفه في الكربات بدون إذن السيد، وإما لأنه كان يرى أن للعبد أن يتصرف في ماله بغير إذن السيد، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن العبد إذا نصح لسيده, وأحسن عبادة الله؛ فله أجره مرتين))، أي: إذا أخلص الخدمة أو طلب الخير؛ لأن النصيحة هي طلب الخير للمنصوح له، فنصيحة العبد للسيد هي امتثال أمره والقيام على ما عليه من حقوق سيده فله أجره مرتين، أي: بشكل مضاعف، دل هذا الحديث على ثبوت الأجر للمملوك، فثبت له أجر العبادة كما ثبت للحر, وزاد عليه بمضاعفة الأجر لأجل طاعته لسيده.

ومن أضرب المساواة التي ذكرنا قبل قليل: المساواة في العقوبات، وقد رأينا من المساواة “المساواة في العقوبة وإن اختلفت العقيدة”، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ((أن اليهود جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئًا، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم؛ فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آيات الرجم، فنزع يده عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبًا من حيث موضع الجنائز عند المسجد، قال الراوي: فرأيت صاحبها يحمي عليها يقيها الحجارة)).

قال النووي: “في هذا دليل لوجوب حد الزنا على الكافر, وأنه يصح نكاحه؛ لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن، فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه، ولم يرجم، وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع وهو الصحيح، وفيه أن الكفار إذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكمنا شرعًا”.

قال العلماء في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((كيف تفعلون بمن زنى منكم؟)): هذا السؤال لم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم، فإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم، ولعله -صلى الله عليه وآله- قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء، أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه- ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه، فهذا دل على أن المساواة قد تكون مع اختلاف العقيدة في العقوبة.

ثم إن المساواة بين المسلمين أمر متقرر، لا فرق بين شريف ووضيع، وكبير وصغير، ((فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد -حب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) -صلى الله عليه وآله وحاشاها من كل سوء.

والمساواة تتحقق ولو كان الفاعل وضيعًا، فالعبد يقام عليه الحد كالسيد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمعه يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر)).

قال النووي -رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل على وجوب حد الزنا على الإماء والعبيد، وفيه أنّ السيد يقيم الحد على عبده وأمته، قال النووي: وهذا مذهبنا “يعني الشافعية”، ومذهب مالك وأحمد، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. “أي: وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على هذا المذهب أيضًا”.

وهذه المساواة في العقوبة أيضًا لا فرق فيها بين قريب وبعيد، فعن عبادة بن الصامت قال: قال -صلى الله عليه وآله: ((أقيموا الحدود في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم)).

ومما أكد حق المساواة بين الناس ما تقرر من نبذ التداعي بالنسب أو الطعن فيه, وهذا المبدأ هو المبدأ الثاني وهو ناتج عن تقرير المبدأ الأول وهو مبدأ المساواة، والشواهد على تقرير مبدئنا بالتداعي بالنسب والطعن فيه كثيرة, منها: أنّ الطعن في النسب من أعمال الجاهلية، فعن مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وآله: ((أربع في أمتي من أمر الجاهيلة, لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم, والنياحة))، وهذا أخرجه مسلم وغيره.

والطعن في النسب عُدّ من أعمال الكفر -عياذًا بالله- تغليظًا، فعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت))، وقد ذكر النووي لمعنى الحديث عدة أوجه، ورجح أنه من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، وفي هذا الحديث تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة، فقد جاء في كل واحد منهما نصوص معروفة كثيرة.

والتفاخر بالنسب من عمل الخلق, وهذا عمل لم يقره الله تعالى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديًا ينادي: ألا إني جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان ابن فلان خير من فلان ابن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟)), وهذا الحديث أخرجه الحاكم النيسابوري في (مستدركه) على (الصحيحين).

وقد جاء الذم للتفاخر بالآباء الكفار، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله -عز وجل- من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم خلق من تراب)) أخرج الحديث الترمذي، وقال: حسن غريب، وصححه المحقق أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- وغيره. قوله: “يدهده” أي: يدحرج العذر والقاذورات، و”الجعل”: حيوان صغير كقدر الخنفساء أو أكبر منها قليلًا.

والحاصل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبّه المفتخرين بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية بالجعل، وآباءهم المفتخر بهم بالعذرة، ونفس افتخارهم بهم بالدهدهة بالأنف، والمعنى أن أحد الأمرين واقع البتة؛ إما الانتهاء عن الافتخار، أو كونهم أذل عند الله من الجعل الموصوف.

وقوله: “عبية” أي: نخوتها وكبرها وعنجهيتها. قال الخطابي -رحمه الله: “العبية: الكبر والنخوة، وأصله من العتب وهو الثقل”، قال الخطابي: “معناه: أن الناس رجلان، مؤمن تقي، فهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيبًا في قومه، وفاجر شقي فهو الدنيء وإن كان في أهله شريفًا رفيعًا”.

بل, وأخيرًا جاء التهديد لمن افتخر بنسبه إلى أبيه وأبوه كافر، فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: ((انتسب رجلان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان، فمن أنت لا أم لك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: انتسب رجلان على عهد موسى -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان، حتى عد تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ فقال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فقال: فأوحى الله تعالى إلى موسى -عليه السلام: إن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة)). أخرجه أحمد وأورده الهيثمي، وقال: رجاله رجال الصحيح، وصححه الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى.

قال ابن حجر: “من انتسب إلى آبائه الذين مضوا في الإسلام أو في الجاهليه فهو جائز، وكره بعضهم ذلك مطلقا، ومحل الكراهة إنما كان إذا ذكره على طريق المفاخرة والمشاجرة”.

ولقد أنكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تداعي المهاجرين والأنصار بدعوى الجاهلية، وأمرهم بالتواضع، فقال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد))، وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: ((كنا في غزاة، قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فسمع ذلك النبي -صلى الله عليه وآله- فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة. فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- فقال: أَوَقَدْ فعلوها, والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: يا رسول الله, دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، والنبي -صلى الله عليه وسلم- علق على قول المهاجرين: “يا للمهاجرين”، وقول الأنصار: “يا للأنصار” عبر عنها بأنها دعوى الجاهلية، فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟)) أي: الاستغاثة عند الحرب، كانوا يقولون: “يا آل فلان” فيجتمعون فيتناصرون، فينصرون هذا القائل ولو كان ظالما، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك، وقوله: “يا للأنصار” أي: أغيثوني, ومعناه: أدعو الأنصار وأستغيث بهم، وهذا لا شك أمر مكروه مرفوض في الإسلام.

كل هذا تأكيد وتدعيم لمبدأ المساواة في الإسلام، ولقد جاء هذا التدعيم من خلال مبدأ آخر وهو “نفي التفاضل”, فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يؤكد حق المساواة لكل فرد من أفراد المجتمع من خلال نفي تفاضل أي فرد على الآخر، وإن اختلف اللسان أو اللون، ففي نفي التفاضل باللسان قال صلى الله عليه وآله: ((لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي))، وفي نفي التفاضل باللون قال: ((ولا أسود على أحمر, ولا أحمر على أسود))، وقال لأبي ذر: ((انظر؛ فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود, إلا أن تفضله بتقوى))، كما أنه نفى التفاضل بالصفات، فعن أبي مالك الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن في أمتي أربعا من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت)).

والشاهد من الحديث: الفخر في الأحساب أو الطعن في الأنساب، فإن هذا مدعاة للتفاضل أيضًا، والحسب: هو ما يعده الرجل من الخصال التي تكون فيه، كالشجاعة والفصاحة والكرم ونحو ذلك. وقيل: الحسب: ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، ثم جاء التأكيد من خلال المبدأ الإسلامي العظيم وهو “ثبوت المفاضلة بالعلم والقرآن والتقوى”، فقد قال نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث معاذ: ((إن أولى الناس بي المتقون, من كانوا وحيث كانوا))، وكما في الأحاديث السابقة حديث أبي نضرة السابق: ((ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى))، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر في الحديث السابق آنفًا: ((إلا أن تفضله بتقوى))، قال الشوكاني -رحمه الله: وفي هذا الحديث حصر الفضل في التقوى ونفيه عن غيرها، وأنه لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بها. كل هذا تقرير لقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات: 13]، فالتقوى هي معيار التفاضل.

ومن معايير التفاضل أيضًا “الإعراق في النبوة”، فمن كان عريقًا في النبوة فهو من أفضل خلق الله تعالى، ومعنى العراقة في النبوة: أن يكون المتحدث من ذرية الأنبياء، فضلًا عن أن يكون نبيا في شخصه، فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((قيل: يا رسول الله, من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله)) فيوسف نبي وهو ابن يعقوب, ويعقوب نبي وهو ابن إبراهيم, وإبراهيم نبي -عليهم جميعًا صلوات الله تعالى وتسليماته- فهو أكرم الخلق، لأجل هذا الوصف، فهو نبي، أبوه نبي، جده نبي، ليس أحد يشركه في هذا الفضل: ((قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني, خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا))، والتفاضل يثبت بهذه المعادن الطيبة، ((الناس معادن كمعادن الفضة والذهب, خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))، قال ابن حجر: “والمراد بالخيار والشرف وغير ذلك، من كان متصفًا بمحاسن الأخلاق، كالكرم والعفة والحلم وغيرها، متوقيًا لمساوئها كالبخل والفجور والظلم وغيرها”.

والتفاضل في الفقه تأكيد لما خصه الله -سبحانه وتعالى- العلماء من الخلق جميعًا برفع منزلتهم، قال سبحانه: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [المجادلة: 11]؛ ولهذا كان التفاضل بالقرآن الذي هو أعظم العلم وأنفع العلم حاصلًا في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- فمتعلم القرآن والعالم بالقرآن ومعلم القرآن، كل هؤلاء منسوبون إلى الفضل، فعن عثمان بن عفان، أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)), والحديث في البخاري وغيره. وإذا كان متعلم القرآن ومعلم القرآن والعالم بالقرآن خير هذه الأمة، والأمة خير هذه الأمم جميعًا لقوله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) [آل عمران: 110]، فإن المتعلم والعالم والمعلم لكتاب الله هو خير خلق الله قاطبة.

وفي السنة تقديم قارئ القرآن على غيره في إمامة الصلاة، فعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا))، وهو يقدم أيضًا في الولاية، فعن عامر بن واثلة: ((أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل- وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: ألا إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا, ويضع به آخرين)) أخرجه مسلم وغيره.

بل إنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بإكرام حامل القرآن، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) أخرجه أبو داود وغيره.

وإذا كان إكرام صاحب القرآن في الحياة على هذا النحو، فإنه أيضًا يكرم عند الممات، فقد قدم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حامل القرآن على غيره في اللحد، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: ((إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد)) أخرجه البخاري وغيره.وهذا يدلك دلالة واضحة على أنّ المساواة في هذا الدين, لا تكون إلا على أساس مكين متين، وأن التفاضل الذي يقع بين أنواع المؤمنين وأصناف المتقين إنما هو بتفاوتهم في تقوى الله -عز وجل- فالمقدم بحمل كتاب الله لا يستوي ومن لا يحمل كتاب الله، ولو كان كل منهما منسوبًا إلى التقوى -نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا فقه الإسلام وأدبه

error: النص محمي !!