3.2 حقوق الإنسان بين التصور الإسلامي والأديان الأخرى.
لقد عرفت البشرية في عهودها القديمة شرائع ونظمًا؛ أما الشرائع فهي التي أتى بها الرسل وحيًا من ربهم، بدءًا من أبي البشر آدم -عليه السلام- ثم من بعده شريعة ابنه شيث، ثم شريعة إدريس، ثم نوح، إلى أن جاء نبي الله إبراهيم – أبو الأنبياء. وقد تضمنت شرائع هؤلاء الأنبياء لأممهم مفاهيم العدل الاجتماعي؛ كما أرادها الله -تبارك وتعالى- منطلقة من عقيدة التوحيد التي توجب على البشر إقامة العدل من خلال موازين الحقوق والواجبات. واستمرت الرسالات السماوية من لدن إبراهيم إلى موسى وداود وسليمان وعيسى -عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه- حيث دعوا أقوامهم إلى هذا العدل، ومنع ذلك الظلم، وفرض العبودية لله تعالى وحده وتحريم عبودية البشر للبشر، تضمنت شرائع الرسل جميعًا حق الإنسان في حياة كريمة في ظل عبودية الله وحده. وقد وُجدت إلى جانب الشرائع التي أتى بها الرسل -عليهم السلام- نظم بدائية خلط واضعوها بين المبادئ والمصالح؛ حيث أوجدوا من خلالها بعض القوانين ضمن الدوائر التي يحكمونها والإقطاعيات التي يمتلكونها والشرائح البشرية التي يعيشون فيها ومعها، اتصفت نظم هؤلاء بالبدائية والبعد عن الشمولية وتكريس مصالح الطبقات الحاكمة والشرائح الاجتماعية العليا؛ كما كرست عبودية الإنسان للإنسان؛ حتى كانت معظم الفئات الاجتماعية تعيش حياة الرقيق -كما هو في عهد الفراعنة في مصر- وكما كانت الحال في بلاد الرومان والأشوريين والفينيقيين وغيرهم، ولا بد أن نسجل هنا أن جميع هذه النظم عادت شرائع الرسل وكفرت برسالاتهم وحاربت عقائدهم، وإذا كان بعضها استفاد من بعض التشريعات الإلهية؛ فإن منظريها غلَّبوا الهوى ومصالح الطبقة العليا على حقوق سائر الطبقات الاجتماعية؛ لتضيع حقوق الإنسان في جميع تلك النظم التاريخية الوضعية، وذلك خلافًا لما يورده العلمانيون من تمجيد لها ولواضعيها الذين بادوا. ومن النظم البدائية والتي ظهرت في التاريخ: أنظمة حمورابي، فيما بين الرافدين إلى النيل؛ حيث يرجع عهد وثائقها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وكذلك أنظمة الآشوريين، وفراعنة المصريين، ونظم وقوانين مانو وبوذا وكنفوشيوس، والنظم اليونانية، وقوانين راكوم وصونون وليكيرديوس، وكذلك النظم الرومانية وما انبثق عنها من قوانين لتنظيم الحياة في المجتمع الروماني؛ سجل بعض الكتاب الغربيين المتخصصين في تاريخ الحضارات إعجابهم بما تضمنته بعض هذه النظم التاريخية من هذه القوانين، ومن هؤلاء الذين أبدوا هذا الإعجاب: وول ديورانت. إلا أن المتأمل يرى أن النظم الوضعية عبر التاريخ القديم لم تنقذ الإنسانية من ظلام الجاهلية الأولى؛ بل كرست الطبقية، وربطت حياة الإنسان ومصيره بمصلحة السيد أو الحاكم أو الإقطاعي رغم ما يسوقه الغربيون المحدثون من عبارات تبدو منمقة عن بعض تلك الأنظمة والقوانين البائدة التي امتلأت ظلمًا لبني الإنسان. وفي جميع تلك النظم التاريخية أهدر حق المرأة؛ بل حق معظم الطبقات الاجتماعية، ففي أنظمة بوذا وماني -على سبيل المثال- تتوجه إلى الأخذ بنظام الطبقات والتمييز بينها بالحقوق؛ كما تضمنت إعطاء حق السيادة للبرهمي على سائر الكائنات، وليس للبرهمي أن يتزوج من خارج طبقته، وقد حَرَمت المانية -كغيرها من النظم والقوانين التاريخية البائدة- الإناث من الميراث، ولم تكن القوانين التي وضعها الحكام في تلك الفترات لتطبق على شعوبهم في أنحاء الأرض بأفضل من ذلك؛ فحكام الهند -وهو مثال على أنظمة جميع الأمم القديمة في تلك الحقب القديمة، ومن الأوامر والتقاليد والقواعد- بحسب ما يقول وول ديورانت، كان التعذيب في العقوبات مألوفًا يُمارس بألوان شتى، مثل بتر الأيدي والأقدام والآذان، وفقء الأعين وصب الرصاص المصهور في الحلوق، وتهشيم عظام الأيدي والأقدام بمطارق خشبية، وإحراق الجسم بالنار وإنفاذ المسامير في الكفوف والأقدام والظهور، وقطع أعصاب المفاصل، ونشر الناس بمناشير من خشب. يضيف: لقد بقيت العهود الهندية تمارس هذه العقوبات قرونًا طويلة؛ حتى ألغاها المسلمون على يد السلطان فيروز شاه في العهد الإسلامي. وإذا كانت هذه النظم نموذجًا لما كان سائدًا في العصر القديم أو في العصور القديمة؛ فإن النماذج التي كانت سائدة في العالم آنذاك لا تقل ظلمًا عن ذلك. كما يقال: إن هناك وثائق تاريخية تحتوي على إنصاف الإنسان في بعض النظم الوضعية القديمة؛ فهذا لا يزال يحتاج إلى إثبات وتوثيق. وحين ننظر إلى تلك النظم القديمة نلمس بوضوح بأنها مزيج من الأوامر والأعراف والفلسفة، وهي خلطت فيما خلطت بين الخير والشر والعدل والظلم، وبين إنصاف الإنسان واحتقاره وإذلاله وبين الشدة والرحمة والأخلاق والفساد، واحترام الأسرة والإباحية الجنسية … إلى آخر ذلك بما يجعل الباحث أمام تناقض عجيب يدل على اضطراب في التكوين التربوي والثقافي لدى واضعي تلك النظم. وأحسب أن مثل هذا الاضطراب والتناقض يعود إلى أمرين: الأول: الصراع بين الفطرة والهوى. الثاني: الصراع بين التعاليم الدينية والنزوات الفردية. وقد رأينا القدماء اليونانيين يعتقدون أنهم شعب مختار قد خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التي خلقت منها الشعوب الأخرى التي كانوا يطلقون عليها اسم البربر، وأنهم هم وحدهم كاملو الإنسانية؛ حيث زُودوا بجميع ما يمتاز به الإنسان عن الحيوان من قوى العقل والإرادة، على حين أن الشعوب الأخرى ناقصة في إنسانيتها مجردة من هذه القوى، لا تزيد كثيرًا عن فصائل الأنعام؛ كما قصرت صفة المواطن على الأحرار دون الأرقاء وعلى الذكور دون الإناث، وكانت القرصنة، وما يصاحبها من خطف النساء والأطفال، عملًا مرغوبًا فيه ويمارسه قادتهم. فإذا انتقلنا إلى الرومان؛ فإن قوانينهم ونظمهم الاجتماعية تجرد غير الروماني من جميع ما يتمتع به الروماني من حقوق، وتنظر إليه على أنه من فصيلة إنسانية وضيعة، وأنه لم يخلق إلا ليكون رقيقًا أو عبدًا للرومان. والكتب المقدسة للهنود تقرر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم ونشأتهم الأولى؛ فتذكر أن البراهمة قد خلق فصيلة البرهميين من فمه، وفصيلة الكستن من ذراعه، وفصيلة الفيسائيين من فخذه، وفصيلة السدرائيين أو المنبوذين من قدمه، ولما كان أشرف الأعضاء وأطهرها هو ما علا السرة وأشرفها وأطهرها جميعًا هو الفم، ويليه في ذلك الذراع؛ ولما كان أحط الأعضاء ما كان أسفل السرة وأحطها جميعًا هو القدم؛ لذلك كان أشرف الناس جميعًا وأطهرهم بحسب العنصر والنشأة الأولى هم الذين انحدروا من فم البراهمة: وهم البرهمانيين، ويليهم في الفضل ما انحدروا من ذراعه وهم الكستانيين، وكانت أحد الفصائل الإنسانية هم من انحدروا من فخذه وقدمه وهم الفيسائيون أو المنبوذون وأكثرهم رجسًا ونجسًا هم المنبوذون المنحدرون من قدم البراهمة. تقسم هذه الأسفار الوظائف الإنسانية بين هذه الطبقات بحسب منزلة كل طبقة منها وشرف الوظيفة نفسها وأهميتها، وهذا التقسيم الطبقي كان قاطعًا وباتًّا، ولا يجوز لأحد أن يتعدى طبقته إلى غيرها -كما أشارت إلى ذلك كتبهم المقدسة. أما اليهود فهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وأن الكنعانيين شعب وضيع بحسب نشأته الأولى، ولقد خلقه الله ليكون رقيقًا وعبدًا لليهود، وأن أرواح غير اليهود هي أرواح شيطانية وشبيهة بأرواح الحيوانات، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان كالفرق بين اليهود وباقي الشعوب. وهؤلاء العرب في جاهليتهم كانوا يعتقدون كذلك أنهم شعب كامل الإنسانية، وأن الشعوب الأخرى التي كانوا يطلقون عليها اسم الأعاجم هي شعوب وضيعة ناقصة الإنسانية. وهذا يظهر بجلاء تلك الهوة السحيقة بين ما كانت عليه تلك الأديان الوضعية وما كان عليه أصحابها، وبين تكريم الله -تبارك وتعالى- للإنسان في الإسلام. وإذا أردنا أن نبحث تأكيد هذه العلاقة المتجانسة بين المبادئ الإسلامية من خلال توضيح العلاقة الحقيقية بين الحقوق والواجبات في النظام الإسلامي؛ فإننا يتعين علينا أن نبين قبل ذلك بعض المبادئ الأساسية والتي انطلقت منها حقوق الإنسان في الإسلام. وقبل ذلك علينا أن نؤكد أن الإسلام هو ذلك النظام الوحيد الذي تعامل مع رسالة الإنسان في الحياة بمنهجية شاملة ومتكاملة؛ كما أن الإسلام هو النظام الذي أكد المعادلة الدقيقة بين حقوق الإنسان وواجباته؛ فاعتبر أن أي إهمال على حقوق الإنسان أو واجباته إنما هو من الاعتداء على رسالة الإنسان في الحياة؛ لأن الإسلام هو شريعة الله تعالى الذي خلق الإنسان وجميع الخلق، وهو سبحانه المشرع الوحيد القادر على سن القوانين والمبادئ المناسبة لتأسيس العلاقة المتجانسة بين مختلف الخلائق؛ لأداء فعاليات بناءة في الأرض ولإقامة حياة عادلة وآمنة بين الناس. |
الاختبارات