4.2 حقوق الإنسان في المواثيق الدولية الإسلامية, ومقارنتها بالمواثيق العالمية.
1 1- إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام بدأت فكرة إعلان القاهرة عام تسع وسبعين وتسعمائة وألف، وناقشه ثلاثة عشر مؤتمرًا، منها ثلاثة مؤتمرات قمة إسلامية، وأُعدّت صياغته النهائية في مؤتمر وزراء الخارجية لدول منظمة المؤتمر الإسلامي في طهران, في نهاية عام تسع وثمانين وتسعمائة وألف، وتم إقراره وإعلانه في مؤتمرهم التاسع عشر، والذي استضافته القاهرة عام ألف وأربعمائة وأحد عشر, الذي وافق عام تسعين وتسعمائة وألف للميلاد، وكان هذا في الرابع عشر من محرم الموافق الخامس من أغسطس، وكانت ديباجته كالتالي: قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات: 13). إن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي, إيمانًا منها بالله رب العالمين، خالق كل شيء وواهب كل النعم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وحمَّله أمانة التكاليف الإلهية، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا، وتصديقًا برسالة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، ومحررًا للمستعبدين، ومحطمًا للطواغيت والمستكبرين، والذي أعلن المساواة بين البشر كافة, فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وألغى الفوارق والكراهية بين الناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة. وانطلاقًا من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء الإسلام، والتي دعت البشر كافة ألا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به شيئًا، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، والتي وضعت الأساس الحقيقي لحرية البشر المسئولة، وكرامتهم الخالدة من المحافظة على الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، والنسل، وما امتازت به من الشمول والوسطية في كل مواقفها وأحكامها، فمزجت بين الروح والمادة، وأخذت بين العقل والقلب. وتأكيدًا للدور الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، ربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة، والمساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، وتهدف إلى تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية. ولقد بينا أن البشرية التي بلغت في مدارج العالم المادي شأنًا بعيدًا لا تزال، وستبقى في حاجة ماسة إلى سند إيماني لحضارتها، وإلى وازعٍ ذاتيّ يحرس حقوقها، وإيمانًا بأن الحقوق الأساسية والحريات العامة في الإسلام جزءٌ من دين المسلمين, لا يملك أحد بشكل مبدئي تعطيلها كليًّا أو جزئيًّا، أو خرقها أو تجاهلها، فهي أحكام إلهية تكليفية أنزل الله بها كتبه، وبعث بها خاتم رسله، وتمم بها ما جاءت به الرسالات السماوية، وأصبحت رعايتها عبادة، وإجمالها أو العدوان عليها منكرًا في الدين، وكل إنسان مسئول عنها بمفرده، والأمة مسئولة عنها بالتضامن. إن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي, تأسيسًا على ذلك تُعلن ما يلي: المادة الأولى: أ- البشر جميعًا أسرة واحدة, جمعت بينهم العبودية لله والبنوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف والمسئولية، دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون، أو اللغة أو الجنس، أو المعتقد الديني، أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي، أو غير ذلك من الاعتبارات، وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنموّ هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان. ب- إن الخلق كلهم عيال الله، وإن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، وإنه لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح. المادة الثانية: أ- الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرعي. ب- يحرم اللجوء إلى وسائل تفضي إلى إفناء الينبوع البشري. ج- المحافظة على استمرار الحياة البشرية إلى ما شاء الله, واجب شرعي. د- سلامة الجسد الإنساني حرمة مصونة، ولا يجوز الاعتداء عليها، وتكفل الدولة حماية ذلك. المادة الثالثة: أ- في حالة استخدام القوة أو المنازعات المسلحة، لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال كالشيخ والمرأة والطفل, وللجريح والمريض الحق في أن يداوى، وللأسير أن يُطعم ويُأوى ويُكسى، ويحرم التمثيل بالقتلى، ويجب تبادل الأسرى وتلاقي واجتماع الأسرة التي فرقتها ظروف القتال. ب- لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع، أو تخريب المباني والمنشآت المدنية للعدو بقذف، أو نسف، أو غير ذلك. المادة الرابعة: لكل إنسان حُرمته والحفاظ على سمعته في حياته وبعد موته، وعلى الدول والمجتمع حماية جسمانه ومدفنه. المادة الخامسة: أ- الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق، أو اللون، أو الجنسية. ب- على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير سُبله، وحماية الأسرة ورعايتها. المادة السادسة: أ- المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، ولها من الحق مثل ما عليها من الواجبات، ولها شخصيتها المدنية، وذمتها المالية المستقلة، وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها. ب- على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة, ومسئولية رعايتها. المادة السابعة: أ- لكل طفل عند ولادته حق على الأبوين والدولة في الحضانة والتربية والرعاية المادية والصحية والأدبية، كما تجب حماية الجنين والأم، وأن تعطى عناية خاصة. ب- للآباء ومن بحكمهم حق في اختيار نوع التربية التي يريدونها لأولادهم، مع وجوب مراعاة مصلحتهم ومستقبلهم في ضوء القيم الأخلاقية، والأحكام الشرعية. جـ- للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم، وفقًا لأحكام الشريعة. المادة الثامنة: لكل إنسان التمتع بأهليته الشرعية من حيث الإلزام والالتزام، وإذا فُقدت أهليته أو انتقصت؛ قام وليه مقامه. المادة التاسعة: أ- طلب العلم فريضة والتعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليها تأمين سبله ووسائله، وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة المجتمع، ويتيح للإنسان معرفة دين الإسلام وحقائق الكون، وتسخيرها لخير البشرية. د- من حق كل إنسان على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة, من الأسرة والمدرسة والجامعة وأجهزة الإعلام وغيرها, أن تعمل على تربية الإنسان دينيًّا ودنيويًّا تربية متكاملة ومتوازنة، تنمّي شخصيته وتعزز إيمانه بالله، واحترامه للحقوق والواجبات. المادة العاشرة: الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من ألوان الإكراه على الإنسان، أو استغلال فقره أو جهله لحمله على تغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الإلحاد. المادة الحادية عشرة: أ- يُولد الإنسان حرًّا، وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله، ولا عبودية لغير الله تعالى. ب- الاستعمار بشتى أنواعه -وباعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد- محرم تحريمًا مؤكدًا، وللشعوب التي تعانيه الحق الكامل في التحرر منه، وفي تقرير المصير، وعلى جميع الدول والشعوب واجب النصرة لها في كفاحها لتصفية كل أشكال الاستعباد أو الاحتلال, ولجميع الشعوب الحق في الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة، والسيطرة على ثروتها ومواردها الطبيعية. المادة الثانية عشرة: لكل إنسان في إطار الشريعة الحق في حرية التنقل، واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها، وله إذا اضطهد حقّ اللجوء إلى بلد آخر، وعلى البلد الذي لجأ إليه أن يجيره حتى تبلغه مآمنه ما لم يكن سبب اللجوء اقتراف جريمة في نظر الشرع. المادة الثالثة عشرة: العمل حق تكفله الدولة والمجتمع، ولكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل اللائق بما تتحقق مصلحته ومصلحة المجتمع، وللعامل حقه في الأمن والسلامة، وفي كافة الضمانات الاجتماعية الأخرى، ولا يجوز تكليفه بما لا يطيقه أو إكراهه أو استغلاله أو الإضرار به، وله دون تمييز بين الذكر والأنثى أن يتقاضى أجرًا عادلًا مقابل عمله دون تأخير، وله الإجازات والعلاوات، وهو مطالب بالإخلاص والإتقان، وإذا اختلف العمال وأصحاب العمل؛ فعلى الدولة أن تتدخل لفضّ النزاع ورفع الظلم، وإقرار الحق والإلزام بالعدل دون تحيز. المادة الرابعة عشرة: للإنسان الحق في الكسب المشروع دون احتكار، أو غشّ، أو إضرار بالنفس أو الغير، والربا ممنوع منعًا مؤكدًا. المادة الخامسة عشرة: أ- لكل إنسان حق التملك بالطرق الشرعية والتمتع بحقوق الملكية، مما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع، ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة ومقابل تعويض فوري وعادل. ب- تحرم مصادرة الأموال وحجزها, إلا بمقتضى شرعي. المادة السادسة عشرة: لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني، وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية العائدة له، على أن يكون هذا الإنتاج غير منافٍ لأحكام الشريعة. المادة السابعة عشرة: أ- لكل إنسان الحق في أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية, تمكّنه من بناء ذاته معنويًّا، وعلى الدولة والمجتمع أن يوفرا له هذا الحق. ب- لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية, وتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج إليها في حدود الإمكانات المتاحة. جـ- تكفل الدولة لكل إنسان حقه في عيش كريم, يحقّق له تمام كفايته وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج، وسائر الحاجات الأساسية. المادة الثامنة عشرة: أ- لكل إنسان الحق في أن يعيش آمنًا على نفسه ودينه, وأهله وعرضه وماله. ب- للإنسان الحق في الاستقلال بشئون حياته الخاصة، في مسكنه وأسرته وماله واتصالاته، ولا يجوز التجسس أو الرقابة عليه أو الإساءة إلى سمعته، وتجب حمايته من كل تدخل تعسّفي. جـ- للمسكن حرمته على كل حال، ولا يجوز دخوله بغير إذن أهله، أو بصورة غير مشروعة، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه. المادة التاسعة عشرة : أ- الناس سواسية أمام الشرع, يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم. ب- حق اللجوء إلى القضاء مكفول إلى الجميع. جـ- المسئولية في الأساس شخصية. د- لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة. هـ- المتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة، توفر له فيها كل الضمانات الكفيلة بالدفاع عنه. المادة العشرون: لا يجوز القبض على إنسان أو تقييد حريته، أو نفيه، أو عقابه بغير موجب شرعي، ولا يجوز تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي، أو لأي نوع من المعاملات المذلة أو القاسية، أو المنافية للكرامة الإنسانية. كما لا يجوز إخضاع أيّ فرد للتجارب الطبية أو العملية إلا برضاه، وبشرط عدم تعرّض صحته وحياته للخطر، كما لا يجوز سنّ القوانين الاستثنائية التي تخوّل ذلك للسلطات التنفيذية. المادة الحادية والعشرون: أخذ الإنسان رهينة محرم بأي شكل من الأشكال، وبأي هدف من الأهداف. المادة الثانية والعشرون: أ- لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه، وذلك بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية. ب- لكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفقًا لضوابط الشريعة الإسلامية. جـ- الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله، والتعرض للمقدسات، وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم، أو إصابة المجتمع بالتفكك، أو الانحلال، أو الضرر، أو زعزعة الاعتقاد. د- لا تجوز إثارة الكراهية القومية والمذهبية، وكل ما يؤدّي إلى التحريض على التمييز العنصري بكافّة أشكاله. المادة الثالثة والعشرون: أ- الولاية أمانة يحرم الاستبداد فيها، وسوء استغلالها حرمة مؤكدة؛ ضمانًا للحقوق الأساسية للإنسان. ب- لكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده بصورة مباشرة وغير مباشرة، كما أن له الحق في تقلد الوظائف العامة وفقًا لأحكام الشريعة. المادة الرابعة والعشرون: كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان, مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية. المادة الخامسة والعشرون: الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير, أو توضيح أية مادة من مواد هذه الوثيقة. القاهرة, الرابع عشر من المحرم عام ألف وأربعمائة وأحد عشر من الهجرة، الموافق للخامس من أغسطس سنة تسعين وتسعمائة وألف من الميلاد. 2- مميزات حقوق الإنسان في الإسلام: أولًا: بين يدي الحديث عما تمتاز به حقوق الإنسان في الإسلام عما جاء في الوثائق والمواثيق الدولية, نجد من الواجب في ضوء ما سبق أن نقرّر عددًا من الثوابت أو الحقائق اللازمة؛ أخذًا مما توصل إليه العلماء والباحثون في مجال حقوق الإنسان في الإسلام، وقد رأينا بوضوح فيما قرأنا من قبل من هذه المواثيق والحقوق التي انبثقت عن الإسلام؛ سواء في إعلان القاهرة أو فيما سبقه, نجد أنه لا يجوز مطلقًا أن يُحكم على الشريعة الإسلامية من خلال النّظم السياسية التي سادت في عصور مختلفة من التاريخ الإسلامي؛ بل يجب الحكم عليه من مبادئها العامة، والمستمدة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، ومصادر التشريع الإسلامي هذه من الكتاب والسنة والإجماع، تشهد برعاية الإسلام لحقوق الإنسان في كل مراحله وأطوار حياته. هذا أولًا. ثانيًا: إن للإسلام فضل السبق في تقرير حقوق الإنسان, منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان بمضمون وضمانات, لم تصل إليها الإعلانات العالمية والقوانين الوضعية إلا في الآونة الأخيرة، وهي حين وصلت إلى ما وصلت إليه في الآونة الأخيرة، وصلت بعد أن سُبقت سبقًا بعيدًا. وفي الحقيقة هي لم تصل إلى تمام ما ينبغي أن يقرّر للإنسان من الحقوق كما تقرر في الوحي الإلهي، وإن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي ليست حقوقا طبيعية؛ وإنما هي هبة إلهية تستمدّ من أحكام هذه الشريعة وتستند إلى هذه العقيدة، وهذا ما يكسبها قدرًا من الهيبة والاحترام، ويُضفي عليها شيئًا من القدسية، وهذا يشكّل ضمانة أساسية ضد تقوّل السلطات عليها، ويجعل من خصائص هذه الحقوق الشمول والعمومية، ويجعل هذه الشريعة متحقَّقة الكمال ابتداءً وغير قابلة للإلغاء انتهاءً. ثالثًا: إن للإسلام فضل السبق في تقرير مبدأ المشروعية وسيادة أحكام القانون، وإن الدولة الإسلامية تسبق النظم السياسية المعاصرة في كونها دولة قانونية منذ لحظة ميلادها، تتصرف هيئتها الحاكمة من أعلاها إلى أدناها, وفقًا للأحكام التي جاء بها الشارع الحكيم. رابعًا: إن الشريعة الإسلامية قد جاءت منذ أن نزلت بأعدل المبادئ, والأصول الجنائية الهادفة إلى ضمان الحق الفردي، وتحقيق التوازن بين مصلحة المجتمع في التجريم والعقاب، وبين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساسية من الأمن والسكينة، فقررت في هذا الصدد عددًا من المبادئ لم تصل إليها القوانين الوضعية إلا في أواخر القرن الثامن عشر، فكان أيضًا للإسلام فضل السبق في هذا المضمار. واستنتاجًا مما سبق وما ذكرنا, فإننا سنقوم بإيراد بعض ما يُؤكد ويبيّن السبق الإسلامي البعيد في الأمثلة, والمبادئ التي نضرب بها فيما يلي: أ- مبدأ شخصية المسئولية الجنائية، وهذا يعني ألا يسأل عن الجرم إلا من ارتكبه، وأن أحدًا لا يُسأل جنائيًّا عن عمل غيره ولو كان هذا من أقرب الناس إليه, قال ربنا: ((وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) (الأنعام: 164), وقد نصت معظم الدساتير على ذلك؛ حيث نصت على أن العقوبة شخصية. ب- مبدأ شرعية التجريم والعقاب، وهذا يعني أن القوانين لا تسري إلا على الأفعال التي تقع بعد نفاذها، وذلك باستثناء تطبيق القانون الأصلح للمتهم, قال سبحانه: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)) (الإسراء: 15). خامسًا: للإسلام أيضًا فضل السبق في إيجاد صيغة للتوازن الضروري بين حق الفرد في الحرية والأمن، وحق مجتمعه في منع الجرائم وتتبع المجرمين، فقررت للمتهم حقوقه، وأحاطته بضمانات جوهرية؛ سواء في ذلك مرحلة الاستدلال والتحقيق الابتدائي، أو في مرحلة المحاكمة. أولًا: ومن ذلك أن الشريعة قد قرَّرت للمتهم الحق في أن يعتصم بافتراض براءته عندما أكدت مبدأ قرين البراءة؛ الأصل براءة الذمة، ورتَّبت عليه ما يترتب من نتائج؛ فجعلت عبء الإثبات على سلطة الاتهام، وقال -صلى الله عليه وسلم: ((البينة على من ادَّعى))، وقررت أن الشك يُفسر لمصلحة المتهم لقوله -صلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود بالشبهات)), هذا أولًا. ثانيًا: أنها أحاطت المتهم بضمانات عند التفتيش، تحمي له حقه في الخصوصية، وصيانة الأسرار بالقدر الذي لا يتجاوز مصلحة المجتمع. ثالثًا: أحاطت المجتمع والمتهم عند الاستجواب بضمانات، فهي تصل بالضمانات التي توفّرها للمجتمع إلى حدّ أنها تحميه من ضعف نفسه، ومنزلقات لسانه، وهذا ما لم تصل إليه كثير من القوانين الوضعية، وقررت الشريعة عدم جواز إخضاع المتهم لأي تعذيب، أو معاملة قاسية أو غير إنسانية، وقررت عدم جواز إكراه المتهم على أن يكون شاهدًا ضد نفسه، وقررت حق المتهم في الرجوع عن إقراره في أي وقت سابقٍ على تمام التنفيذ، ولو كان ذلك بعد الحكم عليه، حتى الخروج عند إيقاع الحد اعتبرته الشريعة رجوعًا. رابعًا: حرمت الشريعة القبض والحبس التعسفي، وأحاطت حبس المتهم احتياطيًّا بضوابط وضمانات من شأنها أن تحقق التوازن بين حريته الشخصية ومقتضيات التحقيق، وضمنت للمتهم الحق في أن يمثل أمام محكمة مختصة ونزيهة, ولم تجز أيَّ نوع من أنواع القضاء الاستثنائي. خامسًا: كما أن مبادئ الشريعة الإسلامية تتفق مع مبدأ تعدد درجات التقاضي، ووضعت الشريعة للمتهم حقه في محاكمة عادلة ونزيهة، وقررت حقه في الدفاع عن نفسه بنفسه، أو الاستعانة بمدافع يُعينه على إثبات براءته أو تحديد مقدار مسئوليته، ولا يتنافى ذلك ومبادئ الشريعة، ووجود نصوص تُلزم بتعيين مدافع للمتهم في الجرائم الكبرى، وتضمن لعملية المحاماة استقلالها؛ بل قررت الشريعة حق المتهم في التعويض عن أخطاء القضاة؛ وذلك للقاعدة الشرعية المشهورة: الضرر يزال. وفضلًا عن ذلك كله، فإن المحاكمة في الشريعة تتم وفقًا لنظام الاتهام الفردي الذي يحقق للمتهم ضمانات جوهرية، أهمها علانية وشفافية الإجراءات، كما أن الشريعة بتبنيها نظام الإثبات القانوني في جرائم الحدود والاختصاص قد قيدت سلطة القاضي لمصلحة المتهم؛ حرصًا منها على أن يكون الحكم في الجرائم الخطيرة مبنيًّا على أدلة قدَّر المشرع قوتها وإقناعها. سادسًا: الشريعة الإسلامية قد نهجت في تقرير ضمانات وحقوق المحبوس منهجًا, لم تصل إليه كثير من القوانين الوضعية المعاصرة، فقررت رعايته رعاية تتفق مع إنسانيته وكرامته، فلم تجز ضربه ولم تجز تعذيبه، ولم تجز تقييده. سابعًا: لاحظنا أن الجرائم التي نصَّت الشريعة على أن عقوبتها الإعدام, هي جرائم محددة ومحدودة. ثامنًا: نرى أن الإسلام له فضل السبق في تقرير المستوى الرفيع في حماية الحقوق والحريات الشخصية للأقليات الدينية، وذلك في الدولة الإسلامية، وأن مسلك الإسلام في هذا الصدد لخليق بأن تقتدي به النظم السياسية المعاصرة. تاسعًا: للإسلام أيضًا فضل السبق في الاعتراف للمرأة بالأهلية القانونية، وبالذمة المالية المستقلّة، والإسلام قد كفل لها حقوقًا تُقابل الواجبات التي عليها، وهو حين فعل ذلك ساوى بينها وبين الرجل في الحماية والتكاليف لتطوير المجتمع لما فيه خيره وازدهاره, على أساس من الفضائل والروابط الوثيقة. عاشرًا: إن للإسلام فضل السبق في تقرير حرية الفكر والتعبير، فالآيات القرآنية قد فتحت باب الحرية الفكرية واسعًا، بل أوجبت ممارستها لأنها وظيفة العقل الذي خلقه الله ليعمل، وما التراث الفكري الإسلامي برمّته إلا نتيجة أداء هذا الواجب بإعمال الفكر وفقًا للقواعد والأصول. ومن أهم الضمانات أيضًا: عبء الإثبات يقع على المتهم -بكسر الهاء- أي: بسلطة الاتهام، وهو ما يسمى بالمدعي، ومن الثابت في الفقه أن عبء الإثبات يقع على عاتق سلطة الاتهام بمقتضى تطبيق قرينة البراءة، فإن إلقاء عبء الإثبات على عاتق المتهم أو المدعي يجعل هذا الأمر موكولًا إليه؛ فلا يلزم المتهم أو المدعى إليه بأن يقدم أدلة النفي، وإلا فالأصل براءة ذمّته. وأساس إلقاء عبء الإثبات على سلطة الاتهام على المدعي, ما أخرجه أصحاب السنن من حديث ابن عباس, من قوله -صلى الله عليه وسلم: ((لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي))، وفي رواية أخرى: ((البينة على المدعي, واليمين على من أنكر)). ومن هذه الضمانات أيضًا: أن الشك يفسر في صالح المتهم، وقد مضى معنا أن الشريعة تبني الأحكام في المواد الجنائية على الجزم واليقين, لا على الشك والاحتمال؛ ومن ثمَّ فإن أيَّ شك يفسر لصالح المتهم، فإذا كان القاضي لم ينته من الأدلة التي ذكرها المدعي إلى الجزم بنسبة الفعل إلى المتهم؛ كان من المتعين عليه أن يقضي بالبراءة، وأساس هذه القاعدة قوله -صلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود بالشبهات، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)). ومن هذا أيضًا: مراعاة قرينة البراءة لقواعد الإجراءات الجنائية، وكذلك ضمانات التفتيش، وقد أرثت الشريعة في هذا الصدد القواعد التي تحقق الصالح العام، وترعى في نفس الوقت حق الإنسان الذي كرمه الله تعالى وفضله بالمسكن، وستره عن الإبصار، وملكه الاستمتاع به، فأما حرمات المسكن فقد جاء في القرآن الكريم قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) (النور: 27, 28). ثم جاءت السنة النبوية مؤكدة لهذه المعاني جميعًا, ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهنّ: لا يؤم رجل قومًا فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيته قبل أن يستأذن، فإن فعل فقد خان, ولا يصلّي وهو حاقن حتى يتخفف))، وقوله -عليه الصلاة والسلام: ((لو أن رجلًا اطلع عليك بغير إذن, فحذفته بحصاة ففقأت عينه؛ ما كان عليك من جناح)). وأما حرمة الأشخاص وعدم جواز تفتيشهم دون وجه حق؛ فمن المستقر في فقه الشريعة أنه لا يجوز لإنسان أن يتحسس ملابس شخص آخر؛ ليعرف ما تخفيه هذه الملابس تحتها دون مقتضًى أو دون إذن منه، وإذا كانت حرمة المساكن مصونة فإن حرمة الأشخاص تكون أشدّ صيانة وحماية. أما عن حرمة المراسلات وعدم جواز الاطلاع عليها، واغتيال سريتها عن طريق ضبطها أو تفتيشها، فقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من اطلع في كتاب أخيه دون أمره؛ فإنما اطلع في النار))، وقد استقر الأمر في الإسلام على هذا منذ فجره. ومما يذكر في هذا الصدد, أن عمر -رضي الله عنه- دخل على قوم يتعاقرون على شراب، ويوقدون في الأخصاص، فقال: “نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم! فقالوا: يا أمير المؤمنين, قد نهاك الله عن التجسس فتجسست، وعن الدخول بغير إذن فدخلت” فروي أن عمر -رضي الله عنه- قال: “هاتان بهاتين” وانصرف ولم يتعرض لهم. ونحن حين نتحدث عما تمتاز به حقوق الإنسان في الإسلام عما جاء في الوثائق الدولية, ننظر ونقلب صفحات التاريخ، فنرى أن ما وصلت إليه جميع الوثائق الدولية والإقليمية؛ ليكون مرجعًا أصيلًا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، قد تقرَّر في الإسلام عبر تاريخه العظيم؛ ليكون شاهد صدق وعدل على أن الإسلام الحنيف هو الذي أعلن مبادئ الإنسان وحقوقه، ولكن كان هذا الإعلان إعلانًا نظريًّا واقعيًّا، وبهذا يكون قد سبق إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لما يقرب من أربعة عشر قرنًا. بل إن الإسلام أقر حقوقًا كثيرة للإنسان لم يتعرض لها إعلان الأمم المتحدة، ولم تعرفها الديمقراطيات الشكلية الهشَّة بجميع أنواعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية والفكرية والإنسانية. كما أن الشريعة الإسلامية قد وفرت كل الضمانات والإجراءات اللازمة لتنفيذ تلك الحقوق، وهو ما تفتقر إليه كل الوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. إن تقرير الإسلام لحقوق الإنسان يمتاز عن كل التنظيمات الوضعية الحديثة من محلية ودولية، ومنها هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن الأمم المتحدة، وذلك من عدة وجهات نتناولها بشكل عام أولًا، ثم نتناول بعض المواد على سبيل المقارنة ثانيًا، والمقارنة ستكون بين هذا الذي أُعلن عن الأمم المتحدة في الحادي عشر من ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وثمانٍ وستين، الموافق للعاشر من ديسمبر سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف، وبين ما في كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- من بيان لهذه الحقوق وتحديد لها. فأولًا: من حيث الأقدمية في تحديد حقوق الإنسان وإلزاميتها، فإننا نواجه كل الناس جميعًا؛ لأن أول إعلان لحقوق الإنسان في الإسلام هو قول الله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) (الإسراء: 70) ومن هذه الآية وأمثالها أرسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القواعد الأساسية للحقوق الإنسانية في توجيهاته النبوية العديدة قولًا وفعلًا، وتعدّ وثيقة المدينة وصلح نجران وخطبة الوداع من أهم وثائق حقوق الإنسان في السنة النبوية، وأصبحت هذه الحقوق عند المسلمين واقعًا عمليًّا ملموسًا، وليست مجرد تصور نظري أو مثالية تُخالف الواقع، أو شعارات جوفاء بعيدة عن التطبيق. كما أن حقوق الإنسان في تشريعات البشر أقربها أو أقدمها كان سنة خمس عشرة ومائتين وألف, أي: في بداية القرن الثالث عشر الميلادي الموافق للقرن السابع الهجري، وكان ذلك بعد نزول الإسلام بسبعة قرون، وهذا يؤكد ما ذكرنا آنفًا من فضل الشريعة الإسلامية الغراء بسبقها كل التنظيمات الوضعية الحديثة من محلية ودولية في تناولها لحقوق الإنسان، وتأصيلها لتلك الحقوق. بل إن أغلب ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي صدر عن الأمم المتحدة، والذي تتخذه جميع الوثائق الدولية والإقليمية مرجعًا أصيلًا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ما هو إلا ترديد لبعض الوصايا النبيلة التي تلقاها المسلمون عن الإنسان الكبير، والرسول الخاتم والنبي الأعظم محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه. وقد رأينا أن ما ورد في المادة السادسة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة, من إعطاء الرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج الحق في التزوج، بدون قيد بسبب الدين، رأينا ذلك متعارضًا مع تعاليم الإسلام؛ لأن منطق الإسلام في ذلك ينطلق من حيث وجوب صيانة الأسرة من الانحلال بسبب الاختلاف في الدين، ويتفرع عن ذلك الحالات الثلاث التالية المختلفة في أحكامها، ولكنها كلها تنطلق من المنطلق السابق ذكره، وهذه الحالات هي: أولًا: زواج المسلم من امرأة وثنية, أو امرأة لا تؤمن بالله قد حرمه الإسلام, قال تعالى: ((وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)) (البقرة: 221)؛ لأن عقيدة المسلم لا يمكن أن تحترم بحال من الأحوال معتقدات هذه الزوجة، وهذا يعرّض الأسرة إلى الخصام ومن ثَمَّ إلى الانحلال. ثانيًا: زواج المسلم من كتابية, سواء كانت يهودية أو مسيحية, أباحه الإسلام, قال تعالى: ((الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (المائدة: 5). ثالثًا: زواج غير المسلم, سواء أكان يهوديًّا أو مسيحيًّا نصرانيًّا من المسلمة, زواج محرم ممنوع منه في الإسلام بالإجماع؛ لأن الزوج اليهودي أو المسيحي لا يعتقد برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- بل يعتقد فيه بكل منكر من العقيدة، والقول الذي ينفّر الزوجة المسلمة من زوجها, يعرّض الأسرة إلى الخصام؛ ومن ثمَّ إلى الانحلال. وصحيح أيضًا أن ما ورد في المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي صدر عن الأمم المتحدة من إعطاء الإنسان الحق في أن يغير دينه, يتعارض مع تعاليم المسلم الذي لا يجيز للمسلم تغيير دينه؛ لأن ذلك يعتبر ردَّة في الإسلام، وهي جريمة من الجرائم التي تشكّل خطرًا على أمن الدولة الإسلامية والنظام العام؛ لأن العقيدة هي أساس النظام الإسلامي، ولهذا عُدّ حفظ الدين أول المقاصد الضرورية التي تكفلت الشريعة الإسلامية بحمايتها. كل ما ذكرنا صحيح، بيد أن الصحيح أيضًا أن أغلب ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والصادر عن الأمم المتحدة خلافًا لهاتين المادتين, ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنته نصوص الشريعة الإسلامية الغراء. ولا شك أن الإسلام هو الأسبق، وفي موازنته بين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه وبين مصلحة الجماعة كان هو الأكمل والأجمل، وتلك حقيقة يجب أن يدركها كل ذي بصر وبصيرة عن الإسلام، وعما جاء به واشتمل عليه من تشريعات ربانية. وحقوق الإنسان -كما جاء بها الإسلام- حقوق ملزمة شرعها الخالق سبحانه، فليس لأحد كائنًا من كان أن يعطلها أو يعتدي عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلًا عنها، ولا بإرادة المجتمع ممثلًا فيما يقيمه من مؤسسات أيًّا كانت طبيعتها، وكيفما كانت السلطات التي تخولها. فحقوق الإنسان في الإسلام إذًا ليست مجرد توصيات أو أحكام أدبية، وإنما أمور مُلزمة يجب تطبيقها ويحذر تعطيلها، وإن ما ورد بشأن حقوق الإنسان في الإسلام يُعدّ بحق هو المنهج الصحيح بمعنى كلمة الحقوق, التي تدل على الأمور الثابتة التي يجب الالتزام بها، فهي التزام واقع على السلطة في المجالين الدولي والداخلي، وعلى جميع الأفراد، وهي مكفولة بالوسائل التي تعمل على تحقيقها، ولم يأت إقرارها نتيجة مطالبات ومظاهرات، وإنما شرعت من رب العالمين، وبيّنها الرسول الكريم، فهي في الإسلام تشريع، والذي يتجاوزها ويساعد على انتهاكها يكون ظهيرًا للمجرمين, يجب معاقبته بالعقوبات المنصوص عليها شرعًا. أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والصادر عن الأمم المتحدة, فلا يتمتع بقوة قانونية ملزمة، وإنما هو مجرد توصية صادرة عن الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، وليس معاهدة دولية ملزمة، وقد كان الغرض الأصلي منه التعريف بالحقوق والحريات العامة للإنسان, هذا من جهة. وإذا أردنا أن نقارن من وجهة ثانية، فإننا ننظر من حيث العمق والشمول؛ فحقوق الإنسان في الإسلام أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق والمواثيق الوضعية المحلية والدولية. وحقوق الإنسان في الإسلام مصدرها كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- أما حقوق الإنسان في التشريعات الوضعية فمصدرها الفكر البشري بما يحمل من قصور وضعف وميل وهوى؛ فقد فصلت حقوق الإنسان في الإسلام تفصيلًا يحمل سائر معاني العمق والشمولية، وأصّلت نصوص الشريعة في القرآن والسنة النبوية تأصيلًا يتسم بالوضوح والإحاطة لسائر حقوق الإنسان؛ بينما تغافل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة, وغيره من الوثائق الأخرى, عددًا من الحقوق اللازمة التي قرّرها الإسلام، مثل حق الإنسان في الدفاع عن نفسه، وحق الإنسان في أن يعفو، وحق الوالدين، والحق في الميراث، وغالب الحقوق الاجتماعية؛ بل وحق الإنسان بعد مفارقة الحياة, إلى غير ذلك من الحقوق التي سوف نزيدها بيانًا -إن شاء الله تعالى. ومن جهة ثالثة, يمكن أن نقارن من حيث الحماية والضمانات، وقد رأينا أن الوثائق الوضعية المحلية والدولية الخاصة بحقوق الإنسان، ومن أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن الأمم المتحدة, لم توضع لها الضمانات اللازمة لحمايتها من الانتهاك؛ فبالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجد أنه لم يحدد الوسائل أو الضمانات؛ لمنع أي اعتداء على حقوقه، وبخاصة ما يكون من هذه الوسائل والضمانات على المستوى العالمي. ويمكن أن نكتفي في هذا الصدد بإيراد نص عام مبهم في المادة الثامنة والعشرين من الإعلان، يُقرّر أن لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحقيقًا تامًّا. كما تضمَّن الإعلان تحذيرًا من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها، دون تحديد جزاء للمخالفة، وذلك في المادة الثلاثين من الإعلان؛ إذ ورد النص كما يلي: ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله, على أنه يُخوّل لدولة أو جماعة أو فرد أيَّ حق في القيام بنشاط, أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه. إن الوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان, كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات اللاحقة له, لم تنص صراحة على الوسائل الكفيلة بضمان حقوق الإنسان، ولم تضع الضمانات اللازمة لحماية هذه الحقوق، بل اكتفت بالنص على ضرورة صيانتها فقط عن طريق إصدار بيانات الإدانة, بقطع النظر عن حقيقة اتهامها بانتهاك حقوق الإنسان. كما أنها لم تعط الحق لدولة من الدول في التدخل في شئون دولة أخرى باسم حقوق الإنسان، ومع هذا كله فإننا نرى الآن بعض الدول تحاول التدخل في شئون الدول الأخرى باسم حماية حقوق الإنسان، وإذا كانت لا تستطيع التدخل عسكريًّا، فإنها تعمل على إثارة الرأي العام العالمي ضد الدولة التي انتهكت فيها حقوق الإنسان عن طريق إصدار البيانات والإدانات. وفي الواقع, إن مثل هذا التدخل لا يؤدّي إلى وقف أعمال انتهاك حقوق الإنسان؛ فإن مثل هذه البيانات والإدانات تصطدم دائمًا إما بتكذيب رسمي من الدولة المتهمة، أو برفضها التدخل في شئونها الداخلية، كما أن هذا الأسلوب للدفاع عن حقوق الإنسان وحمايتها يرتبط ارتباطًا قويًّا بحالة العلاقات بين الدول؛ فقد تبين من الممارسات العملية أنه لا يُستخدم إلا حينما تسوء العلاقات بين الدول المعنية، فيستخدم من باب التشهير والتنديد بالدولة التي تنتهك فيها حقوق الإنسان, وأحيانًا يصل الأمر إلى فرض حصار اقتصادي عليها, إذا كانت مغضوبًا عليها من القوى العظمى. وقد تبين أن الدول الكبرى تستخدم مثل هذا الأسلوب لا لحماية حقوق الإنسان في ذاتها، ولكن بقصد الضغط على دولة أخرى؛ ولذا حينما تكون العلاقات طيبة بين الدول المعنية, فإن كل منها تتلافى التشهير بالأخرى، ولو كان ثمن ذلك هو التغاضي عن انتهاك حقوق الإنسان. أما الحماية الحقيقية والضمانات الأكيدة لحقوق الإنسان, فهي موجودة في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على شكل أوامر ونواهٍ تشريعية، قام النبي -عليه الصلاة والسلام- بتطبيقها وتوفير الحمايات والضمانات التي تكفل تحقيقها، باعتبارها منحة إلهية تتمتع بالهيبة والاحترام، ولا يمكن مصادرتها أو التحايل عليها، كما تتمتع بقوة معنوية تُلزم النفس البشرية بالخضوع والامتثال بقراراتها. فهذه الحقوق في الشريعة الإسلامية, تُعدّ واجبات شرعية ملزمة، وهي محميَّة بالضمانات التي تكفل تحقيقها، وليست فقط حقوقًا طبيعية للإنسان ووصايا تُدعى الدول لاحترامها، وللاعتراف بها فقط من غير ضامن لها. |
الاختبارات