Top
Image Alt

5.2 الحرية الدينية

  /  5.2 الحرية الدينية

5.2 الحرية الدينية

1– عناية السنة بتقرير الحرية الدينية

لم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكره أحدًا على الدخول في الإسلام، بل الثابت أنه -عليه الصلاة والسلام- قد أعطى غير المسلمين الحق في الاعتقاد وممارسة شعائرهم الدينية، فقد أقرّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لليهود المحيطين بالمدينة حقّهم في ممارستهم لشعرائهم الدينية، جاء ذلك في عهده لهم عند مقدمه للمدينة -صلى الله عليه وسلم، وفي عهده -عليه الصلاة والسلام- لنصارى نجران، أنه قال في ذلك العهد: ((ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم وأنفسهم، وأرضهم وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، ولا يغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليهم دية ولا دم جاهلية)).

فهذا العهد ضمانٌ واضح من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، وضمان لإبقاء رؤسائهم في مراكزهم الدينية، وقد نهج الخلفاء الراشدين والصحابة -رضي الله عنهم- هذا المنهاج النبوي الكريم، فأوصى الخليفة أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان عندما بعثه على رأس جيش من المسلمين إلى الشام، فقال له: “إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله -أي الرهبان- فدعهم وما زعموا”، كما أوصى أسامة بن زيد بقوله: “وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم لله، فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له”، ونص كتاب الخليفة عمر -رضي الله تعالى عنه- إلى أهل بيت المقدس، على كفالة حريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم، فجاء في ذلك الكتاب: “هذا ما أعطى عمر أمير المؤمنين أهلَ إيلياء -أي القدس- من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمهم وبريئهم، وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحدٌ منهم”.

وصالح القائد الإسلامي خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أهل الحيرة على ألّا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة، ولا يمنعون من ضرب النواقيس، ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم، ومن ذلك ما جاء بعهده مع أهل عانات، بأنّ لهم أن يضربوا نواقيسهم في أيّ ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلّا في أوقات الصلوات، وأن يُخرِجوا الصلبان في أيام عيدهم، كما أخرج ذلك القاضي أبو يوسف في (الخراج)، ومثله أيضًا عهد القائد عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لأهل مصر، ومطلعه: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، إلى آخر ما ذكره الإمام الطبري في تاريخه.

وقد صرّح الفقهاء بأنه لا يجوز إكراه الذميين والمستأمنين على الإسلام، وبهذا أصبح مفهوم الحرية الدينية واضحًا في ذهن كل مسلم، ولذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقرّ بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم، هذا جوستاف لوبون يقول: “رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لليهود والنصارى، كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله؛ كاليهودية والنصرانية، على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته”.

ونقل جوستاف لوبون عن روبنتس قوله: “إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة بدينهم، وروح التسامح بين أتباع الأديان الأخرى”.

من كل ما سبق يظهر جليًّا أن السنة النبوية قد عُنيت عناية بالغة بحق الإنسان في الحرية الدينية، وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أعطى أهل الكتاب حق ممارسة شعائرهم، وعلى هذا سار الخلفاء الراشدين والصحابة الأجلّاء على هذا النهج النبوي الكريم، وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، أن يراعوا مشاعر المسلمين، وأن يراعوا حرمة دينهم، وقد نصت المادة الثالثة عشرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام على حق الحرية الدينية، فذكرت أنّ لكل شخص حرية الاعتقاد وحرية العبادة وفقًا لمعتقده، كما نصت المادة العاشرة من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، على أن الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان، أو استغلال فقره أو جهله لحمله على تغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الانتقال إلى الإلحاد.

2- حق الدفاع عن العقيدة:

كان من الطبيعي وقد أسّس الإسلام لحرية الاعتقاد، وأرسى مبدأ ألّا إكراه في الدين، أن يكون لديه تشريع يحمي عقيدة من ينتمي إليه ضد أي اعتداء تتعرض له، أعني: أن يشرع الإسلام القتال في سبيل الله، وهو نوع من أنواع الجهاد، أو هو الجزء المسلح منه.

الجهاد في اللغة: يعني المبالغة واستفراغ الجهد والطاقة، من قول أو فعل، ذلك أن مادة جَهَد وجَهِدَ تعني في اللغة: الجهد والطاقة والبذل واستفراغ الوسع، أي: الجهاد كلمة تطلق على المبالغة في استفراغ الجهد والوسع والطاقة.

الجهاد أعمّ من القتال الحربي المعروف؛ إذ كل ما يبذل فيه المسلم وسعه وطاقته فيما يعود عليه وعلى دينه ومجتمعه بالنفع فهو جهاد، وعلى هذا فإن تعلُّم العلم جهاد، والعمل جهاد، والسعي على العيال جهاد، والسعي على الأرملة والمسكين جهاد، وهكذا مجاهدة النفس والشيطان والأعداء جهاد، والدعوة إلى الله عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة جهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا جهاد، فكل أعمال الخير والبر تدخل في هذا الجهاد بمعناه الواسع، يؤيد هذا قوله -صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دخل مسجدنا ليتعلم خيرًا أو يعلّمه فهو مجاهد)) وهذا حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) والحديث في الصحيحين، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة حين استأذنته في الجهاد قال: ((جهادكنّ الحج)) والحديث عند البخاري وأحمد في مسنده.

من هذه المعاني والمعطيات الكثيرة للجهاد من ناحية اللغة، نرى أن بذل الوسع واستفراغ الجهد يطلق على الجهاد، سواء كان يطلق عليه أنه جهاد، سواء أكان في باب القتال أو في باب التعليم أو الدعوة أو غير ذلك، وأما في خصوص المصطلح الفقهي، فإن الجهاد ينصرف إلى قتال الكفار خاصّة، على هذا دلّت اصطلاحات الفقهاء. إذًا بين القتال والجهاد شيء من الفارق، فإن الجهاد عند الفقهاء منصرِف إلى قتال الكفار خاصة، والقتال أعم منه، وقد نؤثر أن تستخدم لفظ القتال بدلًا عن الجهاد؛ لأنه هو المعنيّ بالحديث في هذه الجزئية، والمتأمل في الآيات التي شرعت القتال دفاعًا عن العقيدة يجد أن جميعها نزلت في المدينة، وبعد أن تعرض المسلمين لألوان من الأذى والاضطهاد في مرحلة استضعافهم في مكة، أما أول آية نزلت تشرع للقتال فهي في قوله تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج: 40).

وإذا تأملنا في هذه الآية، فإننا نستطيع أن نتعرف على طبيعة القتال في سبيل الله، أو نظرة الإسلام إلى القتال؛ لأن الآية أرشدت إلى أمرين في غاية الأهمية: هما حكم القتال في سبيل الله، والحكمة من مشروعيته، تصدير الآية بقول الله تعالى ((أُذِنَ)) يدل على أننا بصدد إباحة أمر كان محظورًا؛ لأن معنى آذن أبيح، فهذا اللفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع، ولذا قال الفقهاء الأصل في الجهاد -يعنون بذلك القتال المسلح- أنه فرض على الكفاية، بمعنى إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأنه ليس فرضًا متعينًا يجب على كل مسلم في كل وقت، ولكنهم قالوا: إنه يتعين في حالات استثنائية، منها:

إذا التقى الزحفان والتقى الصفان، فيحرم على من حضر الوقعة الانصراف، ويتعين عليه البقاء؛ لقول الله تعالى: ((إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)) وقوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ  أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) (الأنفال: 15، 16).

ويتعين الجهاد إذا نزل الكفار ببلد، فإنه يتعيّن على أهل ذلك البلد أن يقاتلوهم وأن يدفعوا عن أنفسهم وعن دينهم، والموضع الثالث من تعين الجهاد إذا استنفر الإمام قومًا -أي طلبهم- للقتال، فإنه يلزمهم النفير معهم؛ لقول الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)) (التوبة: 38) ما دون هذه الحالات يبقى حكم الجهاد فيها على أصله، وأنه واجب كفائي، والحقيقة أن عدم تعين القتال إلّا في تلك الحالات الآنف ذكرها، التي يجوز وصفها بحالات الضرورة الملجئة إن دلّ على شيء فإنما يدل على تعظيم الإسلام للنفس الإنسانية ومراعاته لحرمتها، كما يدل على تفهمه لطبيعة هذه النفس التي تكره القتال وإراقة الدماء بفطرتها، ولا تقبل عليه راغبة إلّا إذا كان الدافع قويًّا، والشيء الذي تقاتل لأجله أغلى عليها من الحياة ذاتها، وهو ما يفسر لنا قول الله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم)) (البقرة: 216).

كما أنه ينبغي أن يشار إلى أمر مهم، وهو أنه إذا كان القتال المسلح ليس متعينًا إلا في حالات بعينها، فإن الجهاد بمفهومه اللغوي والشرعي الواسع فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كلّ على حسب موقعه، وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ كون القتال لا يتعيّن إلّا في تلك الحالات الثلاثة التي تمثل ضرورة ملجئة كما ذكرنا، هذا يعني أن الأصل في العلاقة بيننا وبين غيرنا هي السلم، يدل على ذلك قول الله: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) (الأنفال: 61).

وقد رأينا كيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن هاجر إلى المدينة وأسس دولة الإسلام فيها، وأراد أن يعلّم قريشًا بأنه قد صارت للإسلام قوة يجب أن تهاب وأن ترهب، وأنه يجب أن يظهر ذلك لأهل مكة لتحمى حقوق المستضعفين فيها، لم يبدئ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المكيين بقتال، رغم نبل الهدف الذي يسعى إليه، وإنما استخدم وسيلة ضغط من شأنها أن تعلم قريشًا أنهم وما يتعيشون عليه من التجارة وما تحمله القوافل من بضائع في طريقها من الشام إلى مكة عبر المدينة، صارت بأيدي المسلمين، وأنّ أمنها في مقابل أمن المسلمين في مكة، وممارسة حقوقهم، وهو الأمر الذي لأجله طاشت عقول أهل مكة، فجيشوا جيوشهم، وكانت وقعة بدر على النحو الذي عرفناه في كتب السيرة.

هذا في الوقت الذي لم تكن البشرية تعاني من ويلات الحروب ما يمثّل شيء بالنسبة للمعهود الآن، فقد أحصى المؤرخون ثلاثًا وثمانين غزوة وسرية في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبرغم ذلك لم يتجاوز عدد القتلى ألف وأربعمائة شخص على أكثر التقادير من المسلمين واليهود والمشركين، ومن هنا كانت سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- تطبيقًا عمليًّا وتجسيدًا فعليًّا لقيمة الحفاظ على الحياة وحرمة النفس الإنسانية، لا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإن لقيتموهم فاصبروا)) وقوله لأهل مكة يوم فتحها: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).

الأمر الثاني: الحكمة من مشروعية القتال: تتجلى بالعرض ثانية لقوله تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج: 40).

بيّنت الآية الكريمة حكمتين جليلتين وراء تشريع القتال هما: دفع الظلم والاعتداء، والثانية: حماية الأديان كلها من أن يضطهد أربابها، أمّا دفع الظلم والاعتداء، فإن الباء في قوله تعالى: ((بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)) هذه للسببية، أي بسبب أنهم ظلموا، وذلك أن المسلمين كانوا يأتون للنبي -عليه الصلاة والسلام- فيتظلمون إليه، ويشكون له ما يقع لهم، ما بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: ((اصبروا فإني لم أؤمر بقتال)) حتى نزلت هذه الآية.

أما أعظم ظلم تعرّض له المسلمون فهو ما أفصح عنه قول الحق -تبارك وتعالى: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)) (الحج: 40) فقوله: ((بِغَيْرِ حَقٍّ)) أي: بغير حق يوجب إخراجهم، ((إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)) هذا استثناء منقطع، لكن لقولهم: ربنا الله أخرجوا، وقال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: لن يخرجوا إلّا بقولهم لا إله إلا الله، وهذا في الجملة يشير إلى ما وقع على المسلمين من ظلم بواح، بسبب ممارستهم لخالص حقهم في أن يعتقدوا ما يشاءون؛ لأن من الحقوق الثابتة للإنسان بداهة حق المواطنة أو القرار في الوطن، وهذا الحق لا يجوز أن ينزع من إنسان لمجرد اعتناقه ما يخالف عقائد قومه، أو عوائدهم، اللهم إلّا إذا بدر منه ما يجعله يشكل خطرًا على قومه وعشيرته، وهذا يدل على أن الدفاع عن حق المواطنة صول الدفاع عن حق العقيدة؛ لأن الوطن هو وعاء هذه العقيدة، ولا يمكن أن تقام عقيدة دون وطن.

القتال إذًا حين شُرِع كان له مسوغاته، ولا يشرع لمجرد الاعتداء ولكن لدفعه، ولإعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين، وقد تضافرت النصوص تؤكد هذا المعنى، قال سبحانه: ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) (البقرة: 190) ((وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة: 36]، ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) [البقرة: 193] ولمّا كان الإخراج من الديار بسبب ممارسة الإنسان حقه في أن يعتقد ما يشاء، من أقسى ما يمكن أن يصاب به إنسان، كان تذكير الله للمسلمين بهذه المحنة التي تعرضوا لها على يد المكيين؛ ليستثير حميتهم ويستنفرهم للجهاد، لا سيما وقد تعرض نبيهم -صلى الله عليه وسلم- للمحنة نفسها، فأخرج كما أخرجوا، كما تدل على ذلك الآيات التي فيها: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) (الأنفال: 30)، وقوله تعالى: ((وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)) (الإسراء: 76) وقوله أيضا: ((أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) (التوبة: 13).

الحكمة الثانية: حماية الأديان كلها من أن يضطهد أربابها، ففي قوله تعالى: ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)) إخبار عن غاية إيجابية من غايات تشريع القتال في الإسلام، وهي التدافع بين الناس التي يحمي الأديان كلها ويحقق التوازن والعمران في الأرض، وهذا التدافع يكون في الأصل بين أصحاب الحق والباطل، أي: بين المؤمنين وغيرهم؛ لأن هم الذين يحملون معاني الحق أو معاني الباطل، ويسعون لإظهار هذه المعاني في الخارج، وإقامة شئون الحياة على أساسها، فيحصل التعارض والتزاحم بين الفريقين؛ لأنهما نقيضان؛ ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر ودفعه، أو على الأقل أضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في الحياة.

وفي تفسير الآية يقول القاسمي -رحمه الله: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)) أي: لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وأذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين، لاستولى المشركين على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، معنى هذا أنّ القتال وإن كان في ذاته مكروهًا، إلا أنه قد تقتضيه الرحمة الإنسانية ذاتها؛ لأنه يوقف الشر والطغيان، ويوقف تحكّم القوي في الضعيف، ويحفظ نظام العالم، وفوق هذا يحافظ على التعددية والتنوع الذي هو آية من آيات الله الكونية، التي أقام عليها العالم ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)) (الروم: 22) لذا نجد الآية لا تختص المسلمين وحدهم بالذكر، كما في قوله: ((لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)).

الصوامع هي جمع صومعة، وهو البناء المرتفع المحدد الأعلى، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى، وبعباد الصابئين، ثم استعملت في مآذن المسلمين، والبِيَع جمع بيعة، وهي كنائس النصارى، والصلوات روي عن ابن عباس عني بها كنائس اليهود وقيل النصارى، هي بمعناها الحقيقي، هكذا شملت هذه الآية جميع الديانات السماوية المعروفة للعرب آنذاك، وكأن الإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا في خدمة العدل والسلام العالمي، وتأمين حرية العقيدة لأرباب الأديان كلها، بل والدفاع عنها ضد الوثنية والشرك، ولهذا أكّد الله -تبارك وتعالى- هذا المقصود بقوله: ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)) [الحج: 40، 41].

هذه هي الفئة المدعومة؛ لأنها لا تتجبر بقوتها، ولا تختال بنصرتها، ولكن تجعل منهما سبيل إلى إقامة منهج الله الذي أراده للناس في هذه الحياة، عن طريق توثيق صلتهم بالله أولًا، إقامة الصلاة، وانتصارهم على شح أنفسهم ثانيًا فأتوا الزكاة، ثم مقاومة الشر والفساد، أيًّا كانت صبغته، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهؤلاء هم قوى السلام العالمي، وهم الذين يعدهم الله تعالى بالنصر والتمكين في الأرض، فقتال المسلمين في نصرة للمظلوم والمستضعف، وفيه إرساء لقيم الحق والعدل، وفيه دفاع عن أهم قيمة يعتز بها كل إنسان -أي حريته في اعتقاده وممارسته لشعائره التعبدية دون خوف، وفي المعنى نفسه قال ربنا: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) (البقرة: 193). أي: قاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك حتى تزول الفتنة في الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء، حتى يكون الدين كله لله، أي حرًّا، ويكون الناس أحرارًا في دينهم، لا يكره أحدًا على تركه ولا يؤذى ويعذّب لأجله.

وهذا ما يفسّر لنا لما لم يلغي إنسان هذا العصر، وهو الذي يفخر بانجازاته في مجال تشريع حقوق الإنسان شرعية الحروب، وإنما جعل همه أن يسن التشريعات التي تضمن ما يسمى بأخلاقيات الحرب، وذلك كالاتفاقات التي تتعلق بجرائم إبادة الجنس البشري، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، مثل الاتفاقية الخاصة بمنع إبادة الجنس والمعاقبة عليها، والمبرمة عام ثماني وأربعين وتسع مائة وألف، وغيرها من الاتفاقات؛ ومن ذلك إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة مجرمي الحرب، عام ثمان وتسعين وتسع مائة وألف، وهو الأمر الذي بلغ فيه الإسلام شأوًا بعيدًا، حين حّرم في الحروب قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان، وحين حرّم قتل الأشجار والثمار وتحريق الأعداء بالنار، وحين أوجب الأعداء للسلم إن هم مالوا إليه، وتأمين من يطلب الأمان، كذا من يقع في الأسر، وأوجب حسن المعاملة، حتى كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله- يتبارون في تقديم الطعام إليهم، وهو ما امتدحوا القرآن في قوله: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)) (الإنسان: 8).

والأسير هو الكافر المأسور، هذا وغيره يؤكد أنّ القتال في الإسلام ما هو إلّا قتال للرحمة ولإقامة العدالة، ولنصرة المظلمين، وللدفاع عن الحريات، واستعادة الحقوق المسلوبة لا إكراهً ولا تسلطًا كما يزعم الزاعمون ويدعي المدعون.

وهنا ترد شبه يتعين علينا أن نناقشها، وهي شبهة انتشار الإسلام بالسيف، فإنهم ما زالوا يتهمون هذا الدين بأنه دين لا يتعايش مع مخالفيه في العقيدة، لا يزال يرجف بهذا المغرضون من أعداء الإسلام، متخذين من الآيات التي يفيد ظاهرها وجوب قتال الكفار مطلقًا مستندًا قويًّا لهم في ادعاءاتهم، ولعل أهم آية يتكئون عليها قول الله تعالى في سورة التوبة: ((إِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)) (التوبة: 5) ولعلّ من أفجع ما وصلنا في هذا الزمان، ما صرّح به البابا بندكت السادس عشر في محاضرة له ألقاها في سبتمبر عام ألفين وستة، لم يستند البابا في ادعائه على آيات القتال في القرآن كما هو معهود، ولكن استند على كلام أحد قياصرة العصور الوسطى البيزنطيين أثناء وجوده تحت الحصار في الحروب الصليبية، مع علم البابا وهو أستاذ جامعي، أن هذا القيصر ليس من المرجعيات العلمية التي يعتد بها، حتى يكون كلامه مسلّمًا، فلا يخضع للنقد أو للتثبت.

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن ما استقر في الفهم الغربي عن الإسلام يشوبه الكثير من الخلط والأحكام المسبقة واجترار الماضي، وأن الهوة بين الشرق والغرب تزداد مع الأيام اتساعًا، ولسنا هنا بصدد الرد عليه، ولكن فقط علينا أن نسأله ما رأيه في الحروب الصليبية التي أقيمت لنشر المسيحية في الشرق، هل كانت بالعقل أم بالسيف، وينبغي أن ننبه أن هذه الشبهة يمكن الرد عليها من واقع التاريخ والسير الصحابة -رضي الله عليهم، وسيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسنته، ولكن هنا نناقش ما يستندون إليه وعليه غالبًا، وهو قول الله تعالى في سورة التوبة: ((فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)) (التوبة: 5).

وقد أيدوا ما ذهبوا إليه من أنّ هذه الآية ناسخة لكل آية فيها دعوة إلى التسامح أو العقل أو الصفح، وبالتأمل في هذه الآيات، وفي الجو العام لهذه السورة، يتأكّد لدينا أنه لا نسخ؛ لأن الآيات تتحدث عن ظروف معينة، وأناس معينين، سابقوا هم بالحنث والاستهانة، فالأمر عبارة عن رد فعل وعقوبة على موقف سابق، ويحصل أن ننظر إلى الآيات مع سياقها الذي وردت فيه، حتى نتمكن من فهمها على وجهها، فتندفع هذه الشبه بغير عناء، قول الله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) (التوبة: 4).

هذا يدل بوضوح على أنّ الأمر بإعلان البراءة ونقد العقد الذي أبرمه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مع المشركين، تمهيدًا لقتالهم، إنما كان لطائفة منهم؛ لأن الله سبحانه استثنى من هؤلاء الذين تبرأ من عهودهم، من حافظوا عليها ولم ينقصوا منها شيئًا، قال ابن كثير: “هذا استثناء من ضرب مدة التأجير بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلّا من له عهد مؤقت، فأجله إلى مدته، وذلك بشرط ألّا ينقد المعاهد عهده، وألا يظاهر على المسلمين أحدًا، فهذا الذي وفّى له بذمته وعهده إلى مدته، ولهذا عرّض الله تعالى بالوفاء بذلك فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) أي الموفين بعهدهم.

ورجّح الطبري أنّ الذين ضرب لهم أجل الأربعة أشهر وأذن لهم بالسياحة في الأرض، إنما هم أهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله قبل انقضاء مدتهم، قال: فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله -جل ثناؤه- أمر نبيه بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته، معنى هذا: أن الذين أمر الله بقتالهم بقوله: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين)) هم الذين نقضوا العهود، الذين تحالفوا مع غير المسلمين ضد المسلمين، أي أنّ الإسلام لا يقيم حربًا بينه وبين هؤلاء، إلّا إذا جاءوا بالخيانة ونقد العهد. إذًا الإسلام لا يصادر حرية أحد، وإنما يؤمّن دعوة الحق من أن يعترضها معترض، أو أن يحول أحد بينها وبين الوصول إلى الناس؛ لأنها نور الله التي يجب أن يشرق على الدنيا بأثرها.

ومما يدل على أنه لا إكراه ولا مصادرة لحرية أحد، أنّ الإسلام يفتح لهؤلاء جميعًا وسط هذا الغضب العارم من صنيعهم بابًا آخر للأمان، يأمنون من خلاله على أنفسهم وعلى عقيدتهم، وفي الوقت نفسه يعطيهم الفرصة كاملة كي يروا نور الإسلام الساطع بسماع آياته، ولهم الحرية الكاملة بعدُ في أن يعتقدوا ما يشاءون، مع ضمان أمنهم وسلامتهم، قال سبحانه: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)) (التوبة: 6).

وشيء مهم ينبغي أن ننوه به، وهو أنه على الرغم من أنّ آيات سورة التوبة كما هو ثابت من آخر ما نزل من القرآن؛ حيث نزلت في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها رسول الله -صلى الله عليه وآله، وقد كان للإسلام دولته المهابة في المدينة، فلم يلبث إلّا قليلًا حتى بسط نفوذه على أنحاء الجزيرة كلها بعد فتح مكة، رغم كل ذلك، إلّا أن الأمر الإلهي بالقتال في هذه السورة كما يقول بعض الباحثين: ظلّ محكومًا بالنهج الإسلامي الأصيل؛ ألّا عدوان إلّا على الظالمين الناكثين للعهود؛ لأن القتال لم يكن يومًا ما غاية للإسلام ولا للمسلمين، وإنما كان سبيلًا لكسر الطوق الظالم عن المستضعفين الذين يئنون تحت وطئت المشركين.

إذًا لا نسخ، وليست آيات الكتاب في سورة التوبة ناسخة لآيات العفو والصفح والتسامح، ولكنها كما يقول السيوطي: من المنسأ الذي أخِر إلى أن يقوى المسلمون، أما في حال ضعفهم فيكون الحكم هو وجوب الصبر على الأذى، وعلى هذا تكون آيات الصفح والعفو باقية إلى جوار آيات القتال، وكل منها يمثل حكمًا لحالة مختلفة، فيطبّق كل حكم منها في حالته وظروفه، والذي يوجب العمل بأحدهما، وهو ما يحقق مصلحة للمسلمين، فهدف تحقيق المصلحة ينبغي أن يكون محل نظر من يشرّعون للمسلمين أحكامهم في السلم والحرب.

وإذا كان حق الدفاع عن العقيدة أو حفظ الدين ضرورة من الضرورات، أو كلية من الكليات التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها، فكذا حفظ النفس، وقد مرّ معنا أنّ الجهاد أوسع دلالة من القتال، وأنّ الأمة الإسلامية دائمًا في حالة جهاد، وفي عصرنا هذا يصبح من المغامرة أن يختزل مفهوم الجهاد في القتال المسلح، الذي لا تملك الأمة آلياته البدائية، فكيف بتلك التي تحصد الملايين في غداة واحدة، يحسن بنا أن نعرج سريعًا على آيات الأمر بالقتال الواردة في القرآن حتى يزداد الأمر جلاء.

أول آية نزلت تبيح القتال حسب ما ورد في أقوال أكثر المفسرين هي قول الله تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)) (الحج: 39) ثم جاءت بعد ذا آيات سورة البقرة، والتي يلاحظ فيها أنها قيدت الأمر بالقتال ببدء العدو بالعدوان، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) (البقرة: 194)، وكذا آيات سورة النساء لا تخلو من هذا المعنى كما في قوله: ((وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا)) (النساء: 75)، وفي سورة “الأنفال”: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه)) [الأنفال: 39] وفي سورة “التوبة”: ((وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)) [التوبة: 36].

يمكننا إذًا أن نقول: إن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن الذين دخلوا في الإسلام عن طريق التجار الدعاة، كانوا أكثر من الذين دخلوا من خلال الجهاد والفتح الإسلامي، فالإسلام لا يرغب في القتال لمجرد القتال، وإنما لممارسة حق مشروع في إزالة هذه العوائق والموانع التي تمنع الناس وتحول بينهم وبين هدى الله -تبارك وتعالى، ولممارسة الحق المشروع في الدفاع عن العقيدة، وفي تأمين هذه الدعوة، ومع هذا فإنّ آيات الصفح والعفو والتسامح باقية إلى جوار آيات الجهاد إلى يوم القيامة، بل الأصل في تعاملنا مع غيرنا هو السلم، وليس بالضرورة أن يكون هو الحرب.

3- حد الردة والحرية الدينية:

هنا سؤال مفاده: هل عقوبة المرتد تنافي حرية الاعتقاد؟

بداية الردة في الاصطلاح الشرعي هي الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، وبهذا المعنى الاصطلاحي للردة جاء في القرآن الكريم قول الله تعالى: ((وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) (البقرة: 217)، وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)) (المائدة: 54).

ويلاحظ أنه لم ترتب أيّ من هاتين الآيتين على الردة عقوبة دنيوية محددة من العقوبات الشرعية المعروفة كالقتل أو الرجم أو الجلد أو النفي، نعم ليس في الآيتين عقوبة شرعية محددة للردة كغيرها من الجرائم، لكن ورد في السنة ما يحدد هذه العقوبة، وذلك فيما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)) كما هو في صحيح البخاري، وفي الصحيحين ((أنّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم لمّا بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن، أتبعه معاذ بن جبل، فلمّا قدم عليه قال: انزل وألقى له وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًّا فأسلم، ثم راجع دينه دين السوء فتهوّد، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس، فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرات، فأمر به فقتل)) وهذا أيضًا أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن أبي موسى قال: ((قدِم علي معاذ وأنا باليمن، ورجل كان يهوديًّا فأسلم فارتدّ عن الإسلام، فلما قدم معاذ قال: لا أنزل عن دابتي حتى يقتل فقتل، وكان قد استتيب قبل ذلك)) فهذا أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح.

من مجموع هذه الأدلة اتفق الفقهاء على أن من ارتدّ عن دين الإسلام إلى غيره، فإنه يقتل بعد أن يستتاب، سواء أكانت ردته بالقول كأن يستهزئ بالله أو يكذّب برسوله، أو ينكر أمرًا مجمعًا عليه كالصلاة، أو يحل أمرًا مجمعًا على حرمته كالخمر، أم بالفعل كأن يلقي المصحف أو أن يدنسه، أو أن يسجد لصنم، وسواء في ذلك الرجل والمرأة، الذكر والأنثى، لكنهم اختلفوا في الاستتابة ومدتها، فأكثر أهل العلم على أن الاستتابة واجبة، ومدتها ثلاثة أيام، فإن تاب وإلّا قتل، من هؤلاء عمر وعلي -رضي الله عنهما، وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه، وهو مذهب الحنابلة، وللشافعي قول آخر بأنه يستتاب، فإن تاب في الحال وإلّا قتل مكانه.

قال ابن قدامة: وهو أصحّ القولين، واستدلوا على وجوب الاستتابة بحديث أبي موسى المتقدم، وكان قد استتيب قبل ذلك، وأما مدة الاستتابة فثلاثة أيام، واستدلوا لها بما روي ((أنّ رجلًا جاء من اليمن فأخبر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، بأن مسلمًا ارتد فضربت عنقه، فقال -رضي الله عنه: أفلا حبستموه ثلاثة، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله، ثم قال: اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض؛ إذ بلغني)) أخرجه مالك في كتاب الأقضية، وهذا في موطئه. والحديث عنه -رضي الله تعالى عنه- قال فيه الزرقاني: “احتج أصحابنا على الوجوب الاستتابة بقول عمر: هذا، وأنه لا مخالف له، وقوله: لم أحضر، أي: لم أحضر قتله بلا استتابة، ولم آمر به ولم أرضى إذ بلغني، فيه تصريح بخطأ فاعله، ولا يكون ذلك إلّا بنص أو إجماع. الذي عليه جمهور الفقهاء هو أن الاستتابة واجبة وأن مدتها ثلاثة أيام.

ومع مبدأ تقرير الحرية الدينية، فإن الإسلام يقرر هذه العقوبة حفاظًا على عقائد الأمة، وحماية للحرية الدينية، كيف ذلك؟ إننا حين ننظر أولًا إلى بعض الدساتير الوضعية، فإننا نرى أن بعضها ينصّ على أن لكل مواطن في الدولة أن يغيّر دينه، وأن يترك عقيدته، دون تدخُّل من جانب الدولة، بل إنّ بعض هذه الدساتير كالدستور السوفيتي يقرّر بصراحة حرية نشر الإلحاد والطعن في الأديان، ومحاربة العقائد، وكأن الإلحاد في هذه البلاد دين يحمى وحق يصان، وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مؤكدًا لهذا الحق، فهو يقرر لكل شخص الحق في تغيير دينه وتركه عقيدته دون أن يتدخل في ذلك أحد.

وما سر التأكيد على حرية الردة في الدساتير العلمانية؟ السر في التأكيد على حرية التغيير الديني أو الردة في هذه الدساتير، أنها لا تقيم الدولة على أساس ديني، بل تقيمها على أسس وضعية، أي: على قوانين ونظم يضعها الناس لأنفسهم، وهذه الدول تطبق المبدأ القائل: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وهذا يعني أن أسس النظام الذي تقوم عليه الدولة والمبادئ التي تسير عليها، والغايات والأهداف التي تبغي الوصول إليها، لا تجد مصدرها في الوحي، بل في عقول البشر الذين وضعوها وفرضوها على أنها الدين الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل، ولا يسمح لأحد بالخروج عنه، طالما أن الفئة أو الطبقة التي وضعت هذا النظام وارتضته باقية في السلطة، مالكة للقوة، قادرة على القهر والإرهاب، وهذه الأسس التي تقوم عليها الدولة تحمي مصالح الطبقة التي وضعتها وارتضته.

لكن حماية النظام العام أمر محكم في جميع هذه النظم الوضعية، فهذه الدساتير تعتبر الخروج على المبادئ الأساسية، التي يقوم عليها النظام جريمة من أكبر الجرائم، وتسميه خيانة عظمى، وتقرر له عقوبة الإعدام، وهذا يعني ببساطة أنّ هذا النظام أصبح دينًا وضعيًّا، وأصبح الخروج عليه ردة وخيانة، وأصبح واضعي هذا النظام هم الآلهة التي تعبد من دون الله، فهم مصدر السيادة وأصحاب الأمر والنهي، وكل من يعيش في الدولة ينبغي له أن يسمع وأن يطيع، فمن خرج عن النظام أو انتقص من قدره أو دعا إلى غيره عدّ كافرًا بدين واضعيه ومؤيديه، وأصحاب المصلحة في بقائه، فالاتحاد السوفيتي يقوم على أساس المذهب الشيوعي، والمبادئ التي يقوم عليها هذا النظام لا تقبل الجدل ولا المناقشة من أحد، وليس لفرد من داخل الجماعة أن يحقّرها أو ينتقدها أو يدعو إلى غيرها، أو يخرج عليها، فإن فعل كان مرتدًّا عن العقيدة الشيوعية، خارجًا عن رأي وفكر ماركس ولينين، وكانت عقوبته الإعدام.

فإلغاء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وقصر الحكم على طبقة العمال دون غيرهم مثلًا، دين عندهم لا يقبل الجدل، ولا يحتمل النقاش، ولا يعذر مواطن في الجهل به، ولا يقبل منه الطعن فيه أو الدعوة لغيره، أو الخروج عليه، وكذلك الحال في الدولة التي تدين بالنظام الرأسمالي، فإنها تكرّس كل أجهزة الإعلام فيها للدعوة إليه والتبشير به، بل إنها تحاول فرضه بالحرب وقوة السلاح، فهي تعده دينًا لا يقبل الأخذ والرد؛ لأنه يحقق مصالح الطبقة التي وضعت أسسه، وقررت العقوبات الصارمة على الخروج عليه، فلا يقبل في هذه البلاد من أحد أن يقوّد أركان هذا النظام، أو يحرض الناس علي إسقاطه أو الخروج عليه، وهذا يعني أن هذه الدول كلها تعد الخروج على النظام الذي قامت عليه خيانة عظمى، يوقّع على صاحبها أشد أنواع العقاب، وقد يكون الإعدام في بعض هذه البلاد.

وبالمقابل فإنّ حماية أصول الدين أمر محكم في الشريعة الإسلامية، إذا كان الإسلام يقرّر عقوبة الإعدام لمن يخرج عن المبادئ التي قام عليها أو يطعن في هذه المبادئ، أو يحرض على الخروج عليها، أو يدعو الناس إلى الإيمان بغيرها، إذا كان الإسلام يفعل ذلك، فإن دول العالم بأسرها قديمة وحديثة تسير في هذا الطريق، أي تفرض حماية للنظام التي ارتضه، والقيم والمثل التي آمنت بها، والأهداف والغايات التي تخطط للوصول إليها في ظل هذا النظام، وتعد العدوان على أسس هذا النظام عدوانًا على المجتمع كله، وتعاقب عليه بأشد أنواع العقاب، والفرق الوحيد بين الإسلام وغيره أن الدولة تقوم على أساس الدين عقيدة وشريعة وحكمًا ونظامًا، فهي تتخذ من المبادئ التي جاء بها الكتاب والسنة أساسًا لنظامها، ومصدرًا لحكم جميع العلاقات فيها، فيكون الخروج على هذه العقيدة، أو النيل من هذا النظام، أو الطعن في المبادئ التي يقوم عليها خروجًا على الدولة، وعدوانًا على نظامها.

أمّا الدول الأخرى فإنها لا تقوم أساس من الدين، بل تجعل الدين علاقة خاصة بين الفرد وربه، ولا دخل له في حكم علاقات الناس، ولا في حلّ مشاكلهم، ومن ثَمّ فإن الخروج على العقيدة والردة عن الدين لا يُعدّ اعتداءً على الدولة، ولا خروجًا على نظامها؛ لأن نظامها مصدره الدستور الوضعي، ولا علاقة لهذا النظام بالعقيدة وأحكام الدين، فالإسلام إذا منطقيّ مع نفسه لا تناقض فيه، ويحمي نظامه الأساسي، والمبادئ التي يقوم عليها بعقوبة رادعة لكل من يعتدي على هذا النظام، أو يطعن فيه، أو يحرض الناس على تركه، أو يأتي فعلًا يعد تحقيرًا لهذا النظام أو تقليلًا من شأنه، وهكذا تفعل الدول كلها؛ حيث تحمي الأسس التي يقوم عليها نظامها بعقوبة رادعة، لكل من تسوّل له نفسه الخروج عليه.

عقوبة الردة هي حماية لحق التديّن وليست اعتداء عليه، هذه حقيقة يجب أن تكون مستوعبة، ذلك أنّ اعتبار عقوبة الردة جريمة تستوجب أشد أنواع العقوبات في الإسلام، لا يعد اعتداءً على حق الإنسان في التدين، بل هو صيانة لهذا الحق وحماية وإبعادًا له عن العبث به، فإذا عرف من يفكر في الدخول في الإسلام، أنه إذا أعلن الدخول فيه فلن يسمح له بإعلان تركه والكفر به، فكّر طويلًا وقلّب وجوه النظر قبل الدخول فيه، حتى إذا دخل في الإسلام كان دخوله ناتجًا عن بحث ودراسة وحجة وبرهان، فتقل حالات التلاعب بالأديان والاتجار بالعقيدة، واتخاذ تغيير الدين وسيلة من وسائل الحرب النفسية ضد المسلمين.

إنّ الإسلام لا يقبل الإيمان الذي جاء نتيجة تقليد الآباء والأجداد، بل يطلب ممن يريد الدخول فيه أن يتروّى، فيستعمل عقله، ويستعرض أدلته، حتى إذا دخل الإسلام بعد دراسة كان إيمانه به عن يقين، فإذا خرج منه بعد ذلك كان خروجه منه دليلًا على أنه دخل فيه كاذبًا بقصد آثم وهدف غير مشروع، ألا وهو فتنة المسلمين عن دينهم، وإظهار هذا الدين على أنه دين باطل، بدليل أن كثيرًا ممن يدخل فيه يعلن الخروج منه بعد قليل، وهذه حيلة قديمة، وقد أشار القرآن الكريم إليها بقوله: ((وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (آل عمران: 72).

فهذه الآية الكريمة أشارت إلى أن بعض أهل الكتاب كانوا يتخذون من الدخول في الإسلام ثم الخروج منه وسيلة للنيل من الإسلام نفسه، وفتنة المسلمين عن دينهم، وتشكيكهم في عقائده وأحكامه، وصد الناس عنه، فالردة إفساد للدين وصد عن سبيله، والإسلام وقد طلب من الناس أن يفكّروا ويتدبروا قبل اعتناقه والدخول فيه، وحملهم على هذا، بتقرير عقوبة الردة لمن يدخل في الإسلام ثم يعلن الخروج منه، إن الإسلام وقد فعل ذلك، يعد من يدخل في الإسلام ثم يخرج منه مرتكبًا لجريمة إفساد الدين ومحاربته، وصد الناس عنه، فهو لم يدخل الإسلام مطلقًا، بل أعلن الدخول فيه باللسان، بقصد إفساد دين الأمة، وتقويض الأساس الذي يقوم عليه نظام الجماعة.

وإن الشأن فيمن يرتد عن الدين ويخرج بذلك عن نظام الجماعة التي يعيش فيها، ويفقد الولاء للأمة التي انتسب إليها، إن الشأن في مثل هذا أن يستبدل بولائه لدينه ولائه لدين آخر، وبولائه لنظام الذي تقوم عليه دولته ولائه لنظام آخر، وهو بالتالي وقد فقد ولائه لأمته وكفر بما يؤمن به مجتمعه من عقائد، ويطبقه من نظم، خطر على أمته، يفشي أسرارها ويكشف عوراتها ويحاربها مع أعدائها، وهذه كلها جرائم في القوانين الجنائية والنظم الدستورية الحديثة، وعقوبتها من أشد أنواع العقوبات، وتسمى بجريمة الخيانة العظمى، أو التخابر مع دولة أجنبية، أو إفشاء أسرار الدولة، أو التحريض على قلب نظام الحكم، أو الدعوة إلى تقويض الأسس التي يقوم عليها بناء المجتمع، ولا يدعي أحد في الشرق أو الغرب أن اعتبار هذه الأفعال جرائم تنافي حرية العقيدة أو الفكر أو الرأي؛ لأن هذه الحرية كما تقدّم مقيدة في كل دساتير العالم ونظمه بعدم المساس بالمصالح العليا للجماعة، والأسس التي يقوم نظام المجتمع، أو المذهب الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي للدولة، كما يسمونه في نظمهم.

فإذا عاقب الإسلام المرتد، قال أعداء الإسلام والجاهلون بأحكامه: إن هذا اعتداء على حرية العقيدة والفكر، ويتجاهلون أن حرية العقيدة والفكر عندهم مقيدة بعدم المساس بالمذهب الذي تقوم عليه الدولة، والإسلام هو المذهب الفكري والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي تقوم عليه الدولة، فالخروج عليه اعتداء على هذا النظام بأكمله، من كل ما سبق نخلص إلى أنّ عقوبة المجاهر بالردة في الإسلام لا تنطلق من منطلق القيد على الحرية، وإنما منطلق حماية هوية المجتمع الإسلامي، والمحافظة على أسسه ووحدته وقيمه ومبادئه.

error: النص محمي !!