5.3 الحقوق الجنائية في الإسلام
1- تعريف الإثبات وشروطه وما يتعلق به:
يُعتبر أمر الحقوق الجنائية في الإسلام نورًا في جبين الشريعة الغراء، أيقظت به البشرية من طغيان الاستبداد، إن ما تكفله الشريعة من حقوق للمتهم في الدفاع عن نفسه، وما يتضمنه الشريعة من قواعد وأصول في الإثبات والإجراءات يُعتبر أمرًا من هذه الأمور التي تميَّزت به الشريعة الإسلامية.
لقد علَّمت الشريعة الإنسان كيف يحترم حقوقه في المحاكمات، وكيف أنه لا يجوز أن تلقى عليه التهم جزافًا، وأنه ينبغي أن يعامل معاملة الأحرار حتى تثبت إدانته، فيعامل عندئذ معاملة المذنبين. إن دولًا كثيرة تدَّعي أنها حضارية يقال لها اليوم: هل سمعتم خلال رحلة التاريخ كلها عن قانون يكفل للمتهم المعاملة الكريمة حتى تتم محاكمته إلا عندما انبثق الإسلام، وهل هنا من الشجاعة الأدبية ليعترف هؤلاء جميعًا بأن كل نور يظهر في سماء حقوق الإنسان إنما مصدره وأصله وأسّه هذه الشريعة الغراء، إننا حين نتحدث في هذه المحاضرة عن جانب من الحقوق الجنائية، وهو جانب وسائل الإثبات والاعتراف في الشريعة؛ فإنه يحسن بنا أن نتناول:
أولًا: معنى الإثبات، وعن تعريفه وعن شروطه وما يتعلق به:
الإثبات في اللغة: من ثبت الشيء ثباتًا وثبوتًا أي: دام واستقرَّ، وفي الاصطلاح يستعمله الفقهاء على معنيين عام وخاص، والذي يتعلق ببحثنا هنا هو المعنى الخاص، والمعنى الخاص للإثبات عند الفقهاء أو عند القضاة: هو إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتَّب عليها آثار شرعية، وقوله في هذا التعريف إقامة الدليل يعني: تقديمه إلى من يراده إقناعه بالأمر، وذكر القضاء في هذا التعريف قيد ضروري في الإثبات القضائي الذي تترتب عليه آثار من الإلزام بالفعل أو الترك، وهذه الطرق التي حدَّدتها الشريعة لإثبات حق، أو واقعة، هذه الطرق تعني: أن أحكام الإثبات أحكام شرعية، فلا يجوز إقامة الدليل أمام القضاء على حق ما من الحقوق إلا بالوسائل التي حددتها الشريعة، إما بالنص عليها أو الإجماع، أو كان استنباطًا أو اجتهادًا.
ولا يجوز عندنا معاشر المسلمين أن يثبت الحق بطرق غير مشروعة، أو بأساليب غير أخلاقية بمعنى: أنه لا يجوز إثبات الحقوق إلا بالوسائل التي يجوز الحكم بها. وللإثبات شروط:
أولها: أن تسبقه دعوى، وأن يوافق الإثبات الدعوى، وأن يكون الإثبات في مجلس القضاء، وأن يكون الإثبات منتجًا في الدعوى، وأن يكون موافقًا للعقل والحس وظاهر الحال، وأن يكون مستند الإثبات إلى علم أو ظن غالب، وأن يكون الإثبات بالطرق التي أقرَّتها الشريعة الغراء.
ومحل الإثبات أيضًا له شروط: فمن هذه الشروط أن يكون معلومًا، فيشترط في محل الإثبات أن يكون معلومًا؛ لأن فائدة الإثبات هي الإلزام به من القاضي، ولا يتحقق الإلزام في المجهود إضافة إلى أن علم القاضي بالمحل شرط لصحة قضائه، ومن ثمَّ فيجب أن يكون المحل معلومًا مبينًا، كل بحسبه، فإن كان عقارًا ذُكرت حدوده، وإن كان مشهورًا يكفي أن يُسمَّى، وإن كان منقولًا فأمكن إحضاره أشار إليه لتعينه، وهكذا.
الشرط الثاني: أن يكون محل الإثبات مما يجوز شرعًا أي: مما يباح شرعًا، فإن الشريعة مثلًا لا تجيز تملك الخمر، فلا يجوز إذا إثبات تملك الخمر مثلا، ومن الشروط أن يكون محل الإثبات متنازعًا فيه بمعنى: أن تكون هناك خصومة حقيقية بين المدعي والمدعى عليه، وذلك احترازًا من الخصومة الصورية التي يقصد منها الاحتيال للوصول إلى القضاء، فلا يصح الإثبات فيها.
فإذا كانت الخصومة مالية فإن الشرط الرابع يقول: ينبغي في الإثبات أن يكون على مال متقوم أي: له قيمة اعتبارية في الشرع، وذلك بأن يكون الحق محلّ الإثبات مما يجري فيه التمانع والتخاصم، ويترتب على إثباته أن يُسلّم إلى صاحب الحق، فإن كان محل الإثبات لا تجري فيه خصومة ولا تمانع بين الناس لتفاهته؛ لم يصح إثباته، وذلك لإثبات ملكية حبة قمح أو حفنة تراب ونحو ذلك. وللحق وسائل كثيرة تثبته، فمن ذلك الشهادة، ومن ذلك الإقرار، ومن ذلك اليمين، ومن ذلك الإثبات بالكتابة والإثبات بالقرائن، والإثبات بعلم القاضي، والإثبات بالمعاينة والخبرة.
الوسيلة الأولى للإثبات: هي الشهادة، وهي تُعدّ من أهم وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية، وهي ركيزة عظيمة لحفظ الحقوق وصيانة الأرواح والأعراض؛ لذا أحيطت بسياج متين من الناحية الشرعية، وذلك بتقوية الوازع الديني في تحملها وأدائها؛ لأن الشارع الحكيم عظم أمر كتمانها فقال جل من قائل: ((وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) (البقرة: 283)، وقال جل من قائل: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)) وأمر بأداء الشهادة عند طلبها فقال سبحانه: ((وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)) وحثَّ على الصدق والإخلاص في أدائها فقال سبحانه: ((وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)) (الطلاق: 2) ونبينا -صلى الله عليه وسلم- عدَّ الشهادة الكاذبة من أكبر الكبائر، وذلك عندما سُئل عن أكبر الكبائر، فذكر عقوق الوالدين، وكان خلال حديثه متكئًا -صلى الله عليه وسلم- فاعتدل في جلسته وقعد ثم قال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، يردد ذلك مرارًا.
ومع ذلك فقد قام فقهاء الإسلام بوضع الضوابط الخاصة بالشهادة من الأركان والشهود، ونحن نتعرض لذلك بعد تعريف الشهادة وذكر مشروعيتها، يعرّف الشهادة في اللغة بأنها الخبر القاطع، وتطلق ويراد بها الحضور، ومن ذلك قول الله: ((فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)) (البقرة: 185) أي: حضره، وتطلق ويراد بها العلم، ومنه قوله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو)) (آل عمران: 18) أي: علم، وتُطلق ويراد بها الإدراك ومنه قولهم شهدنا الجمعة أي: أدركناها.
وفي اصطلاح الفقهاء الشهادة لها تعريفات كثيرة أكملها وأشملها: أنها إخبار الشخص بحق لغيره على غيره بلفظ أشهد، وذلك في مجلس القضاء.
وقد اتفق الفقهاء على مشروعيتها واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة فمن الكتاب قول الله تعالى: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)) (البقرة: 282)، وقوله تعالى: ((وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)) (الطلاق: 2)، ومن السنة ما أخرجه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال: ((كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: شهداك أويمينك))، وفي (صحيح مسلم) وغيره عن وائل بن حجر قال: ((جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمين. قال يا رسول الله: الرجل فاجر لا يُبالي على ما حلف)) فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًا ليلقنَّ الله وهو عنه معرض))، والشاهد قوله ((ألك بينة))، والبينة: ما أبان الحق وأظهره والشهادة من هذه البينة، بل أطلق بعض الفقهاء أنه حيث جاء ذكر البينة في الكتاب والسنة فالمقصود بذلك الشهود إلا أن مسمى البينة يعمّ الشهود كما يعمّ غيرهم.
وللشهادة أركان، وأركانها خمسة: الشاهد، والمشهود له، والمشهود عليه، والمشهود به، والصيغة بموجب هذه الأركان وُضعت شروط للشهادة، منها:
أن يكون الشهيد عدلًا، كما قال جل من قائل: ((وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)).
وأن يكون الشاهد عاقلًا فلا تُقبل شهادة مجنون ولا صغير؛ لأن القلم لا يجري عليهما.
وأن يكون الشاهد سميعًا بصيرًا؛ فلا تُقبل شهادة الأعمى على الأفعال، ولا الأصم على الأقوال.
وأن يكون الشاهد متيقظًا ضابطًا لما يشهد به؛ فلا تقبل شهادة المغفل كما لا تُقبل شهادة المعروف بالنسيان.
الشرط الخامس: ألا يكون الشاهد متهمًا في شهادته، وذلك بأن يُجري هذه الشهادة؛ بحيث تجر له نفعًا خاصًّا، أو يدفع بها ضررًا عن نفسه، أن تكون الشهادة عن علم ويقين، فلا تُقبل إذا كان سببها الظن والتخمين، ثم إن للقاضي دورًا كبيرًا في تمحيص الشهادات إذا ارتاب في حال الشهود، فله أن يفرقهم وله أن يسألهم كيف تحملوا تلك الشهادة، والشهادة بكل حال حجة، تثبت الحقوق في جميع الأحوال، سواء في ذلك العقود المالية، أو غير المالية؛ فهي تثبت الحق في البيع والتجارة والرهن والهبة والوصية والنكاح والطلاق والإيلاء والولادة والرضاع والحدود، وسائر ما يتعلق بهذه الأحكام، كلٌّ حسب نصابه من الشهادة، إذا استوفت شروطها، وانتفت موانعها.
الوسيلة الثانية: الإقرار، الإقرار لغة: هو الاعتراف وهو إظهار الحق لفظًا أو كتابة أو إشارة، وفي الاصطلاح: هو إخبار الشخص بحق على نفسه لآخر، والإقرار استفيدت مشروعيته من قديم كما قيل، الإقرار سيد الأدلة قديمًا وحديثًا، وهو الفيصل الحاسم في إنهاء نزاع أمام القاضي؛ لأن المدَّعى عليه إما أن ينكر وعندئذٍ يجب على المدعي أن يقوم بإحضار الدليل وتهيئة الحجج والبينات، لإثبات حقه، وإما أن يُقرّ فينقطع النزاع ويعفى المدَّعِي من عبء الإثبات؛ لعدم حاجته يصبح حق المدعى عليه ظاهرًا، ويلتزم المقر بموجب إقراره، ولذا فقد أخذت الشريعة الإسلامية بالإقرار وجعلته وسيلة من وسائل الإثبات، ومن أدلته في كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- شيء كثير، نجتزئ من ذلك بقوله تعالى: ((فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِم)) (الملك: 11)، وبقوله تعالى: ((ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)) [البقرة: 84]، ومن السنة النبوية ما أخرجه النسائي ومسلم في قصة ذلك الأجير الذي زنا بامرأة الرجل الذي كان أجيرًا عنده من حديث أبي هريرة: ((أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: واغدو يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)).
وهذا يدل على حجية الإقرار، وأنه يعتبر حجة كاملة لإثبات الشيء لا يحتاج إلى ما يؤيّده ويدعّمه في إظهار الحق، وذلك لصدوره ممن له الهداية الكاملة على نفسه وماله، ومع كونه حجة كاملة إلا أنها قاصرة على المقر نفسه، ولا تتعدَّاه إلى غيره؛ لأن ولايته على نفسه وليست على غيره. وللإقرار أيضًا أركان فهو كالشهادة في هذه المسألة، فهو المُقِر، والمُقَر له، والمُقَر به، والصيغة. فالمقر: هو الشخص الذي يظهر حق لآخر عليه، والمقر له: هو الشخص الذي يصدر الإقرار لصالحه، والمقر به: هو الحق الذي أخبر عنه المقر، والصيغة: وهي ذلك اللفظ، أو ما يقوم مقامه مما يدل على الإخبار في ثبوت الحق للغير، ويقوم مقام اللفظ الإشارة من الأخرص، ومن اعتقل لسانه.
وللإقرار شروط: وهذه الشروط إما أن تكون في المقر أو في المقر له أو المقر به أو في الصيغة، والشرط الأول: أن يكون المقر بالغًا عاقلًا؛ فلا يصح إقرار الصبي والمجنون كما لا يصح إقرار السكران، وأن يكون المقر مختارًا فلا يصح إقرار المكره، ألا يكون المقر متهمًا في إقراره؛ لأن التهمة تُخلّ بجانب الصدق في الإقرار، وألا يكون المقر محجورًا عليه بما يمنعه من نفاذ التصرفات التي أقر بها، كالمحجور عليه لسفه أو إفلاس، وأن يكون المقر جادًّا لا هازلًا؛ فلا يصح إقرار من هازل، وأن يكون المقر له معينًا؛ بحيث يمكنه المطالبة، أو يكون ضمن جماعة محظورة فيمكن عندئذ تعيينه، وألا يكذب المقر له المقر في إقرار، فإن كذبه بطل الإقرار، وإلا يكون المقر به محالًا عقلًا أو شرعًا، فإن كان كذلك كان الإقرار باطلًا، فلو أقر بأن شخص أقرضه في يوم كذا وقد مات قبل ذلك؛ فلا يصح، أو أقر لوارث بأكثر من نصيبه الشرعي أيضًا فلا يصح.
ومن الشروط أن تكون الصيغة دالة على الجزم واليقين، فإن اشتملت على ما يفيد الظن أو الشك؛ فلا يصح الإقرار، أن يكون المقر به مما يقره الشرع كأن يكون مالًا متموَّلًا، وأن يكون الإقرار قاطعًا لا يحتمل التأويل، وأن يكون الإقرار في مجلس القضاء. ويثبت بالإقرار جميع الحقوق، فكل حق يجب على الإنسان لله تعالى أو لآدمي آخر، إذا اعترف به صاحبه أصبح ثابتًا، ومن وسائل الإثبات اليمين، واليمين هي الوسيلة الثالثة من وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية، والتي يستند إليها القاضي في إصدار الحكم في فصل النزاع وإنهاء الخلاف بين الأطراف، وهي وسيلة تعتمد على الضمير والعقيدة وقوة الوازع؛ لذا اعتنت الشريعة بها من هذا الجانب تعظيمًا لشأنها وتخويفًا من الكذب فيها، وأوعدت الحالف كذبًا بهلاك وبوار في الدنيا والآخرة قال سبحانه: ((إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (آل عمران: 77)، وأخرج مسلم وغيره عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من اقتطع مال امرئ بيمينه حرَّم الله عليه الجنة، فقيل له: وإن كان شيئًا يسيرًا قال: وإن كان قضيبًا من أراق))، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو أن أعرابيًّا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكبائر فذكر منها اليمين الغموس فقال الأعرابي: ((وما اليمين الغموس؟ قال -صلى الله عليه وسلم- التي يُقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)) سميت غموسًا؛ لأنها تدخل صاحبها النار.
واليمين لغة: هي الحلف والقسم، وتعرف بأنها تأكيد ثبوت الحق أو نفيه باستشهاد الله تعالى أمام القاضي.
ولليمين شروط منها:
الشرط الأول: أن يكون الحارث بالغًا عاقلًا مختارًا، فلا يحلف صبيّ ولا مجنون، ولا تعتبر يمين نائم ولا يمين مكره.
الشرط الثاني: أن يكون المدعى عليه منكرًا لحق المدعي، فإن كان مقرًّا فلا يحلف؛ لأنه يُصدق بإقراره بدون يمينه، ولأن الإقرار يرفع الخلاف والمنازعة، فلا يبقى محلٌّ لليمين، أما إذا أنكر فإنه يحلف ليرفع عن نفسه تهمة الكذب.
الشرط الثالث: ألا يكون المدعى به حقًّا خالصًا لله تعالى كالحدود، فإنها لا توجه فيها اليمين إطلاقًا، أن تكون اليمين شخصية بأن تتصل بشخص الحال في مباشرة، فلا يحلف إنسان عن غيره ولا تجوز فيها النيابة، وقد اتفقت كلمة الفقهاء على مشروعية اليمين استنادًا للكتاب والسنة، فمن القرآن قول الله تعالى: ((لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)) (البقرة: 225)، ومن السنة ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه))، وفي رواية للبيهقي ((ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)). كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما أيضًا عن الأشعث بن قيس الحديث الذي تقدم وفيه ((شهداك أو يمينه)).
صيغة اليمين: اتفق الفقهاء على انعقادها بالقسم بالله تعالى، فبها يستحق صاحبها الحق أو يدفع ادعاء الآخرين عنه، ويجوز تغليظها بالزمان والمكان؛ زيادة في تأكيدها وبيان تعظيم أمرها لقوله تعالى: ((تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ))، واليمين تنقسم باعتبار الحالف إلى يمين المدعى عليه ويمين المدعي، وتسمى يمين المدعى عليه باليمين الدافعة أو اليمين الأصلية، وهي التي يوجهها القاضي بناء على طلب المدعي إلى المدعى عليه، وذلك لتأكيد جوابه عن الدعوى وتقوية جانبه في موضوع النزاع، وسميت الدافعة؛ لأنها تدفع الدعوى عنه، والأصلية لأنها هي المقصود بها عند الإطلاق. وهي التي يدور عليها الحديث على اعتبار أنها وسيلة الإثبات تعريفًا وتفريعًا وأهمية، وأما يمين المدعي فهي ثلاثة أقسام:
إما أن تكون يمينًا جالبة، أو يمين تهمة، أو يمين استظهار. أما اليمين: الجالبة فهي اليمين التي يؤديها المدعي لإثبات حقه لسبب يستدعي القيام به، كالشاهد مع يمينه، وكنكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية، فتُردّ على المدعي ليحلف وتسمى اليمين المردودة، وإما أن يكون لوثًا وهي أيمان القسامة في القتل والجراح، وإما أن يكون قذفًا من الرجل لزوجته وهي أيمان اللعان، وإما أن يكون أمانة، فكل أمين ادعى الرَّد على من ائتمنه فيصدق بيمينه إلا المرتهن والمستأجر والمستعير، فلا يصدقون إلا بالبينة؛ لأن حيازتهم كانت لحظّ أنفسهم.
واليمين الثانية هي يمين التهمة: وهي التي تتوجه على المدعي بقصد ردّ دعوى غير محققة على المدعى عليه، وتكون حيث يكون المدعي قاطعًا بالمدعى فيه شاكًّا في المدعى عليه، وهذه لا تعتبر في تحقيق الدعوى.
يمين الاستظهار وهي الثالثة: وتسمى يمين الاستيثاق وهي اليمين التي يؤديها المدعى بناء على طلب القاضي؛ لدفع شبهة، وريبة، وشكٍّ واحتمال في الدعوى بعد تقديم الأدلة فيها، فاليمين عندئذٍ تكمل الأدلة، وتثبت صحتها فإذا قام المدّعي البينة التي تستلزم الحكم بموجبها كالشاهدين، وكانت الدعوى بمال على ميت أو غائب، والبينة لا تفيد إلا غلبة الظن مع احتمال أن يكون المدعي قد استوفى دينه من الميت، أو من الغائب، أو أخذ رهنًا مقابله، وليس للشاهدين علما بذلك؛ كان للقاضي أو يوجه اليمين على المدعي، وذلك لتحكيم ضميره وذمته فيما لا يُطلع عليه، حتى يستحق بالبينة وهذه اليمين لاستظهار الحق واستخراجه، واستجلاء الآمر، وتسمى عندئذٍ بيمين الاستظهار.
الوسيلة الرابعة: الكتابة، تعتبر الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات منذ القدم، يرى العمل بها في حفظ الحقوق، وهي في اللغة الخط، وهو تصوير اللفظ بحروف هجائه، وفي الاصطلاح: هي الخط الذي يعتمد في توثيق الحقوق، وما يتعلق بها للرجوع إليه عند الإثبات، أو هي الخط الذي يُوثّق الحقوق بالطريقة المعتادة؛ ليرجع إليه عند الحال، والإقرار الكتابي صورة من صور الإقرار، لكنه كتابة وذاك لفظًا، وهو أن يخبر الشخص عن ثبوت حق لغيره على نفسه كتابة مستبينة، واضحة مفيدة في أداء المقصود منها، ومحققة للغرض منها.
والإثبات بالكتابة مشروع بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)) (البقرة: 282)، ومن السنة ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما حقّ امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده))، والكتابة لها أنواع ثلاثة: الكتابة المستبينة المرسومة: وهي الكتابة الظاهرة المعنونة، فالمستبينه هي الظاهرة التي يكون لها بقاء بعد الفراغ منها، فتمكن قراءتها، والمرسومة هي المُعَنونة باسم كاتبها، واسم المكتوب إليه مثل: أن يكتب في أعلى الورقة من فلان إلى فلان، أو أن فلان ثبت في ذمتي أو وصلني من فلان كذا، وهذا النوع أعلى درجات الكتابة، ويصح به التصرف كالبيع والإجارة والزواج والطلاق، وتثبت به الحقوق.
الكتابة المستبينة غير المرسومة: وهي الظاهرة غير المعنونة أي: المكتوبة على شيء تظهر وتثبت عليه، كالكتابة على الورق، أو اللوح وما شابه ذلك، ولكنها غير معنونة باسم المرسل والمرسل إليه، أو باسم الدائن والمدين، وهذه يحكمها العرف وما جرى عليه عمل الناس، وينسحب على هذا النوع كتابة الإيصالات التي اعتاد الناس إعطاءها عند أداء الديون مثل: وصل إلينا من فلان كذا وكذا، ومثل ما يُكتب في الدفاتر وكشوف البيان، وكذا ما يكتب في الشيك يُدفع للحامل هذا أو يدفع لحامله كذا، فكلها مقبولة لجريان العرف بها.
وهناك الكتابة غير المستبينة أي: غير الظاهرة، وهذه الكتابة ليس لها بقاء بعد الانتهاء ولا يظهر فيها الخط، فكتابتها غير مفهومة ولا معروفة؛ فلا يعمل بها، ويشترط في الكتابة المتضمنة إقرارًا شرطان: وذلك زيادة على شروط الإقرار العامة، وهما أن تكون الكتابة مستبينة كما قلنا الظاهرة ثابتة على المادة المكتوبة عليها، بخلاف كتابة في الهواء أو كتابة على الماء هذه عبث، ولا أثر لها، وأن تكون كتابة الإقرار مرسومة أي: تكون مكتوبة بالطريقة المعتادة بين الناس بما يتناسب مع الزمن والعصر الحاضر.
يلاحظ أن الشرطين المذكورين يتفقان مع نوعي الكتابة الصحيحة؛ نتيجة لهذه الاعتبارات فقد نحى الفقهاء إلى القول بمشروعية الكتابة المتضمنة إقرارًا في جميع الحالات وفي مختلف الأحوال، فإن الكتابة أصبحت طريقًا أساسيًّا في الإبانة والإفصاح، كالنطق، وأخذ الناس جميعًا في التعلّم واستعمال الكتابة في شئون الحياة، وأمور التجارة، وطرق التعامل؛ فالإقرار بالكتابة صحيحٌ وملزمٌ مع مراعاة الشروط العامة في ذلك، فإذا ادَّعى رجل على آخر فأنكر فخرج، أو فأخرج المدعي الوثيقة أو صكًّا بخط المنكر، وإقراره بالدين؛ فإن تأكد القاضي منها بالاستكتاب والمضاهاة؛ حكم بموجبها. وإذا وجدت كتابة في تركة الميت بالإقرار بدين آخر أو باستيفاء الدين منه، أو بإبرائه؛ فهذا محل قبول واعتبار، وهذا ما يوجد في دفاتر التجار بما عليه من الدين، أو ما عنده من الأمانات، وكذا إذا وُجد في تركة أحد الأشخاص كيسٌ أو متاع، أو قد كُتب عليه أنه أمانة لآخر فإنه يأخذه، وفي ظل المعطيات المعاصرة والتي تقدَّمت وسائل كشف التزوير ومضاهاة الخطوط أصبح ذلك فنًّا قائمًا بذاته، هذا مما يُعزّز من مكانة الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات، ويُعمل بالكتابة في غير الحدود والقصاص، كالمعاملات المالية والنكاح والطلاق والهبة والوصية، وغير ذلك، وذلك لحاجتها الشديدة للاستيثاق واليقين.
الوسيلة الخامسة الإثبات بالقرائن: والقرائن من وسائل الإثبات التي لا يخلو منها كتاب من كتب الفقه الإسلامي، لا يُنكر أحد فائدتها وأهميتها في القضاء، وذلك لشدة الحاجة إليها عند فقدان الدليل وعدم الوجدان، أو عند التشكّك في الدليل المقدم من قبل المدّعي، كما أنها نافعة في الوصول إلى الحقيقة وإنصاف المظلوم. والقرينة تُجمع على قرائن وهي مأخوذة من المصاحبة أو الملازمة يقال: قارن فلان قرانًا أو مقارنة أي: لازمه وصاحبه. واصطلاحًا: هي كل أمارة تُقارن شيئًا خفيًّا فتدلّ عليه، أو هي استنباط الشارع أو القاضي لأمر المجهول من أمر معلوم، وهي بهذا دليل غير مضر، وقد وردت أدلة الكتاب والسنة على العمل بالقرينة قال تعالى: ((وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)) (يوسف: 18) وجه الدلالة أن أخوة يوسف جعلوا الدم على القميص علامة على صدقهم لأكل الذئب يوسف، وهذه القرينة التي وضعوها عارضتها قرينة أخرها أقوى منها، وتكذبها وهي أن القميص كان سالمًا من التمزق، فكيف يأكله الذئب وقميصه سالم.
وفي سورة يوسف أيضًا قول الله تعالى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)) (يوسف: 26 – 28) وجه الدلالة أن الله تعالى جعل شقَّ الثوب قرينة ودليلًا على صدق أحد المتنازعين، وأن الزوج توصل من ذلك إلى تصديق يوسف وإلى تكذيب زوجته.
وفي السنة المطهرة أخرج أبو داود عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: ((أردت الخروج إلى خيبر فأتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه وقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقًا، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته))، ووجه الدلالة أن معرفة جابر لتلك الآية قرينة على صدقه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى وكيله في خيبر. والعمل جارٍ في الشريعة الإسلامية بالقرائن حكمًا وعملًا، فالإنبات والاحتلام قرينة وعلامة على البلوغ، والحيض قرينة وعلامة على البلوغ، وبراءة الرحم أيضًا عند المرأة.
وتنقسم القرينة إلى أقسام كثيرة باعتبارات شتَّى، فمن حيث قوتها وضعفها، ومن حيث مصدرها وقوة استنباطها: أولًا أقسام القرينة بحسب قوتها وضعفها: ذلك أن دلالة القرائن على مدلولاتها تتفاوت قوة وضعفًا تفاوتًا كبيرًا، فقد تصل في القوة إلى أن تكون دليلًا قويًّا مستقلًّا لا يحتاج إلى دليل آخر، فإن الرماد والدخان مثلًا قرينة حتمية على وجود النار، وقد تضعف دلالة القرينة حتى تنزل إلى مجرد الاحتمال والحَدْث والتخمين، بل قد تنزل في دلدلاتها إلى حدّ الكذب والافتراء، ولهذا كانت القرينة تنقسم إلى قاطعة أو قوية، وإلى ضعيفة وإلى قرينة كاذبة؛ فالقوية القاطعة هي التي تجعل الأمر في حيز الثابت والمقطوع به من كون دلالتها قاطعة، وهذا يشمل الظن الغالب لا خصوص اليقين القطعي؛ لأن اليقين غاية يصعب إدراكها.
ومن الأمثلة على القرائن القوية حمل المرأة من غير زوج ولا سيد، هذه قرينة قوية على أن الحمل جاء من طريق غير مشروع، وجود المتهم بالزنا مجبوبًا أي: ليس له ذكر فهذه قرينة قاطعة على كذب المدعي، وبراءة المتهم، وجود المال المسروق بحيازة السارق هذه قرينة على وقوع السرقة، وهناك قرائن ضعيفة أي: تكون دلالتها على الأمر محتملة وغير قوية، لكنها تُعتبر مع ذلك أمر مرجحًا لزعم أحد المتخاصمين حتى يثبت خلافها ببينة أقوى، فكون الزوج مثلًا يختص باستعمال هذا الشيء دون المرأة قرينة تقوّي جانبه، ويُحكم له به، وكذا لو كان هذا الشيء المتنازع عليه تختصّ المرأة باستعماله كالحلي فيُحكم لها به مع أن كلاهما يعتبر صاحب يد، لكن اختصاص الجانب بالاستعمال قرينة قوية تقوي طرفًا على طرف.
القرينة الكاذبة: هي التي لا دلالة لها، وإنما محض توهّم وتخمين فلا تفيد شيء من العلم، أو تكون لها دلالة لكن يُكذبها العقل والنقل، كادّعاء إخوة يوسف أكل الذئب له، وينسحب ضمن القرائن القوية ما هو موجود في الوقت المعاصر من دلالة البصمات مثلًا على إثبات الجريمة بالنسبة للمتهم، وتحليل الدم على ثبوت النسب، وتحليل ما يُسمى ب “d-n-a” و”r-n-a” هذه الصبغات الوراثية على ثبوت النسب أيضًا، وتحليل الدم يثبت أمورًا متعددة كشرب الخمر وغيرها، وهذه الوسائل العصرية ما تزال تتكشَّف وتكشف عن كثير مما يُعدّ من القرائن القوية التي تتدل على الحقائق، وترشد إليها؛ إذ الغرض من العمل بالقرائن هو إظهار الحق وإقامته.
تنقسم أيضًا القرائن بحسب مصدرها وطرق استنباطها إلى أقسام ثلاثة: هناك قرائن نصية، وهناك قرائن فقهية، وهناك قرائن قضائية.
فالقرائن النصية هي التي جاءت منصوصًا عليها في القرآن الكريم، كما تناولنا القميص الذي جيء بدم عليه في قصة يوسف، وشق الثوب قرينة على المباشرة في نفس القصة أيضًا على الاعتداء، ومثل الفراش أمارة وقرينة، ودليل على نسب الولد للزوج لقوله -صلى الله عليه وسلم- ((الولد للفراش))، ومثل الشبه في القافة والسماط في البكر قرينة على رضاها، وغير ذلك.
وهنا قرائن فقهية: وهي القرائن التي استنبطها الفقهاء من النظر في الحوادث والمعاملات، وجعلوها أدلة على أمور أخرى حتى أصبحت أساسًا تبنى عليه الأحكام، من ذلك تصرفات المفلس التي تضرّ بالدائنين هذه تصرفات مردودة؛ لقيام قرينة على سوء قصده ولو ظاهره، ومن ذلك أيضًا وجود سند الدين في يد المدين يعتبر قرينة ظاهره على الوفاء بالدين، وتصرف المريض في مرض موته متبرعًا قرينة على أن التصرف وصية، فيعامل معاملة الوصية، وعدم ترتيب أثر طلاق الضرار لحرمان الزوجة من الإرث، وطلاق الضرار، وطلاق الزوج زوجته طلاقًا بائنًا في مرض موته أو في موقف يغلب فيه الهلاك، كوجوده في سفينة توشك على الغرق بغرض حرمانها من الإرث. والقرائن النصية والفقهية تسمى بالقرائن الشرعية.
وهناك صنف ثالث من القرائن القضائية، وهي التي يستنبطها القاضي من النظر في ملابسات الدعوى وظروفها ومن كلام الشهود، ويتوصل بها في تمحيص الواقع والوقائع، وإثباتها، وتمييز الطيب من الخبيث، ويعود إليه تقدير دلالتها. والقرائن القضائية ليست ذات دلالة قاطعة، ولكنها أدلة احتياطية يستأنس بها القاضي، ويجب أن يحيطها بحيطة وحذر، وإلا يعوّل عليها إلا ضمن القواعد والضوابط المقبولة، ويثبت بالقرائن أموار منها الحدود، وذلك في سور محددة هي: وجود حل من المرأة ليس لها زوج، فهذه قرينة على أن الحمل غير مشروع، القيء من المخمور قرينة على شرب الخمر، وكذا تحليل الدم قرينة على شرب الخمر، وجود المال المسروق بحيازة السارق أيضًا قرينة على وقوع السرقة.
ويلاحظ أنه في اتفاق الفقهاء أن كل حد قام بالاعتراف أو القرينة القوية الدالة عليه، فإنه يسقط مع وجود الشبه؛ لأن القاعدة الحدود تُدفع وتُدرء بالشبهات، كما يثبت بالقرائن القصاص في باب القسامة، وهذا يستدعي تعريفًا بالقسامة. القسامة لغة: من أقسم يقسم أي: حلف، وقد تطلق على نفس الجماعة الذين يحلفون الأيمان. وفي الاصطلاح: هي الأيمان التي يقسم بها أولياء المقتول على استحقاق صاحبهم، أو المتهمون على نفي قتله، والسبب الموجب هو اللوث، واللوث أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل، وله صور مختلفة منها: أن يوجد القتيل في دار قوم أو في أرضهم وبينهم وبين القتيل عداوة، أو أن يدخل نفر دارًا فيتفرقون عن قتيل فيها، أو أن يقول القتيل قبل موته بقليل: قتلني فلان عمدًا، أو يوجد على شخص أثر دم القتيل وغير ذلك بنصه، يُعمل بالقرائن في إثبات المعاملات المالية وما يؤول إلى المال في بيوع، وشراء، وقيود، وتبرعات وفي مختلف التصرفات المالية.
ويلاحظ أن العمل بالقرائن يشترط فيه عدم وجود بينة، ومن المناسب أن نذكر أن بعض القرائن التي خصها فقهاء الإسلام بمزيد من الذكر والحديث عنها مثل: القيافة، والقيافة في اللغة معرفة الأثر، والقائف هو الذي يعرف الآثار، ويعرف أيضًا شبه الرجل بقريبه من أخ وأب. واصطلاحًا: إلحاق الولد بأصوله لوجود الشبه بينه وبينه، ومن هذه القرائن أيضًا الفراسة، وهي لغة: التثبت والنظر. واصطلاحًا: هي استدلال بأمر ظاهر على أمر خفي، وتُعرف بأنها الاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه وفضائله ورذائله، وهي فهم خاص يأخذه القاضي من الوقائع والتصرفات التي تُعرض عليه، وتقدم أمامه هذا المعنى هو الذي يقتضي في القاضي أن يكون حادّ الذهن صافي النفس، صائب النظر، وافر العقل، عالمًا بالأمارات والشواهد والأحوال، وأن يكون نافذ البصيرة في هذه القرائن، دقيق الملاحظة في فهم الخصوم، والكشف عن بواطن الأمور، وذلك ليقيم العدل، ويصل بالحق إلى أهله.
الوسيلة السادسة الإثبات بعلم القاضي: اتفق الفقهاء على جواز الإثبات بعلم القاضي في أربع حالات:
الأولى: القاضي لا يقضي بخلاف علمه ولو مع البينة، فإذا علم بطلاق أو بدين، أو بإتلاف، أو بقتل ثم قامت البينة على ما يخالف علمه؛ فلا يجوز له القضاء بالبينة قطعًا، لأنه متيقن ببطلان حكمه، والحكم بالباطل حرام، فيجب عليه عندئذٍ أن يعتزل النظر في القضية، أو يفوض غيره فيها، ويكون شاهدًا، أو يرفض سماع الدعوى أصلًا. كما اتفق جمهور الفقهاء على جواز العمل بعلم القاضي في الجرح والتعديل، فإذا علم حال الشهود عدالة أو فسادًا؛ فيجب عليه أن يعمل بموجب علمه، فيقبل العدل ويسمع شهادته دون أن يطلب تعديلًا له، أو تزكية، ويردّ كل طعن أو تجريح، إلا إذا بيَّن المجرح شيئًا جديدًا لم يطلع عليه القاضي، فيقدم عندئذ الجرح، وإذا علم فسق الشاهد وتجريحه؛ فلا يقبل شهادته ولا يسأل عنه.
واتفق جمهور الفقهاء على جواز حكم القاضي بعلمه فيما يحدث في مجلس حكمه، فإذا بدرت إساءة من أحد أطراف النزاع نهره القاضي، وإذا تطاول أحدهم بالكلام على القاضي أو على خصمه منعه، وإذا حدث ضرب أو جرح في مجلس القضاء حكم القاضي على المعتدي، واستند في حكمه على ما سمع، أو رأى، ولا يحتاج إلى بينة. اتفق الفقهاء أيضًا على جواز الحكم بعلم القاضي في حق الله تعالى حسبة، كمن سمع الطلاق البائن ثم ادعى الزوجية فيمنع الزوج من الاتصال بزوجته، ومن سمع وقفية، أرض ثم ادعيت ملكيتها فيمنع من تملكها.
الوسيلة السابعة: المعاينة وهي أن يشاهد القاضي بنفسه أو بوسيطة أمينه، وهو ما يعرف بهيئة النظر محل النزاع بين المتخاصمين؛ لمعرفة الحقيقة فيها، وإدراك الواقع الملموس منه، وهي إحدى إجراءات الدعوى، وهو جزء من سير المحاكمة والمعاينة يقوم بها القاضي بصفته قاضيًا، فكأنه نقل محل القضاء من المحكمة إلى مكان المدعى به، وجعله مجلسًا للقضاء، وقد تكون المعاينة في مجلس القضاء نفسه بأن يعاين القاضي المدعى به، ويقوم بفحصه إذا أمكن إحضاره إلى مجلس القضاء، والقاضي في أمر المعاينة بالخيار إما أن يذهب بنفسه، أو أن يستخلف ويبعث خليفة عنه للرؤية والمشاهدة، ومثال المعاينة: لو أن امرأة ادعت على زوجها بأن الذي أعد لسكناها غير صالح، فإن القاضي يذهب بنفسه ليطلع على البيت، ويحكم بعد معاينة بصحة من عدمها، وكذا لو ادَّعى رجل أن الأرض التي اشتراها ناقصة في بعض أطوالها؛ فإنه يذهب -أي: القاضي- ليقف على أطوالها ومعرفة نقصها من عدمه، ليحكم بموجبها.
الوسيلة الثامنة: الخبرة والخبرة لغة هي الاختبار، وهي العلم بالشيء على حقيقته، والخبير هو العالم. واصطلاحًا الخبرة: هي الإخبار عن حقيقة الشيء المتنازع فيه بطلب من القاضي، فالخبرة المقصودة هنا هي الخبرة التي تقدم لأجل أمر متنازع فيه أمام القضاء، لاختلاف الخصوم، وادعاء كل منهما الحق بجانبه، فيطلب القاضي ممن يثق بهم، ويعتمد عليهم في معرفة حقيقة الأمر بتجرد، ويقدم ذلك إلى القاضي دون تحيز لأحد أطراف النزاع. ويلاحظ أنه لا تُقبل خبرة الخصم في خصومته، ولا يشترط في الخبرة العدد، والأصل في العمل في الخبرة قول الله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) (النحل: 43)، والعمل بمقتضى ما يراه الخبراء مشروع باتفاق الفقهاء، والخبرة معتبرة في الإثبات، وفي الحكم بموجبها، ومن الأمثلة على ذلك: الرد بالعيب، فإذا اشترى شخص من آخر دابة أو دارًا، ثم ظهر عيب في المبيع لم يذكره البائع، ولم يسبق للمشتري أن رآه وكان العيب مؤثرًا في رضا المشتري، ويخل بقيمة المبيع، فأراد المشتري ردَّه وأنكر البائع، ورفض ردَّ المبيع فترافعا إلى القاضي عندئذٍ يجب على القاضي على أن يرجع إلى أهل الخبرة والاختصاص للنظر في هذا العيب الخفي، وتحديد ما إذا كان قديمًا فيحكم القاضي للمشتري بردّ المبيع أم كان حديثًا فتردّ الدعوى، ويثبت البيع.
كذا عيب الزواج إذا تزوج شخص بامرأة بكر على مهر معين، فتبين أنها ثيب، وطلب من القاضي التفريق والحكم على المرأة للتغرير به، وأنكرت ذلك؛ فإنها تعرض على القابلة، أو على الطبيبة؛ لبيان حقيقة الأمر والفصل في ذلك. يرجع أيضًا إلى أهل الطب والمعرفة بالجراح لمعرفة الجرح وعمقه وعرضه، حتى تكون الدية على ذلك. يرجع إلى أهل الخبرة من المهندسين في عيوب المنشآت والمساكن، وما يتعلق بذلك. يرجع إلى أهل الخبرة من المحاسبين القانونيين الماليين في ما هو من اختصاص في أعمالهم، ونحو ذلك مما تُقدم فيه أهمية الخبرة، وتظهر فائدتها في الأمور الفنّيّة التي تحتاج إلى علم وتجربة خارجة عن اختصاص القضاء، فيلجئون إلى الخبراء عندئذٍ للاستعانة بخبرتهم في بيان حقيقة الأمر المتنازع فيه.
وبعد هذا العرض لوسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية يتضح أن أنواع الحقوق في الشريعة أربعة أنواع: حقوق الله تعالى المحضة، وحقوق العباد المحضة، وما اجتمع في الحقان وحق العبد غالب، وما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب، أما حقوق الله تعالى المحضة فكحد الزنا والخمر والسرقة، هذه لا يجري فيها من وسائل الإثبات إلا ثلاث الشهادة، والاعتراف، والقرائن القوية في حالات محددة.
وأما حقوق العباد المحضة وهي ما تعلقت بها مصلحة دنيوية ويقبل فيها الصلح وتقبل المعاوضة والإسقاط والإباحة من صاحبها، وهي أكثر من أن تُحصى كالنقود والبيوع والشراء والمداينات، وغير ذلك مما يعد من أنواع المعاملات المالية، فهذه تجري فيها وسائل الإثبات بمختلف ألوانه.
ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب كالقصاص، وهذا لا يجري فيه من وسائل الإثبات إلا ثلاثة الشهادة، والاعتراف، والقرائن في باب القسامة بشرط وجود ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب كالأيمان والنذور والزكوات والصدقات، وغير ذلك.ويلاحظ من هذا التقسيم أن الشريعة الإسلامية أفسحت مجال حرية في حقوق العباد لخالصة؛ لكونها بنيت على المشاحة والمنازعة، فجعلت وسائل الإثبات في الحدود محددة وضيقة؛ لكونها مبنية على العفو والمسامحة، وقيضتها في الجنائيات كالقصاص، وأوجبت فيها الدقة والشدة والحزم، وذلك حفاظًا على الأرواح والأبدان، وقطعًا لداء الشك والظن. وللفائدة فإن وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية متنوعة ومتعددة لا تتقيد، ولا تنحصر؛ إذ مبناها تعليلي، وليس تعبدي، فالبينة: في الشريعة هي ما أبان الحق وأظهر من غير قصره على وسيلة دون أخرى.