5.4 ملخص الدرس والمراجع
ملخص الدرس
لم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكره أحدًا على الدخول في الإسلام، بل الثابت أنه -عليه الصلاة والسلام- قد أعطى غير المسلمين الحق في الاعتقاد وممارسة شعائرهم الدينية، فقد أقرّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لليهود المحيطين بالمدينة حقّهم في ممارستهم لشعرائهم الدينية، جاء ذلك في عهده لهم عند مقدمه للمدينة -صلى الله عليه وسلم، وفي عهده -عليه الصلاة والسلام- لنصارى نجران.
نهج الخلفاء الراشدين والصحابة -رضي الله عنهم- هذا المنهاج النبوي الكريم، فأوصى الخليفة أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان عندما بعثه على رأس جيش من المسلمين إلى الشام، فقال له: “إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله -أي الرهبان- فدعهم وما زعموا”، كما أوصى أسامة بن زيد بقوله: “وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم لله، فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له”، ونص كتاب الخليفة عمر -رضي الله تعالى عنه- إلى أهل بيت المقدس، على كفالة حريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم.
وصالح القائد الإسلامي خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أهل الحيرة على ألّا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة، ولا يمنعون من ضرب النواقيس، ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم.
ومثله أيضًا عهد القائد عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لأهل مصر، ومطلعه: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص.
صرّح الفقهاء بأنه لا يجوز إكراه الذميين والمستأمنين على الإسلام.
لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقرّ بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم، هذا جوستاف لوبون يقول: “رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لليهود والنصارى، كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله؛ كاليهودية والنصرانية، على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته”.
كان من الطبيعي وقد أسّس الإسلام لحرية الاعتقاد، وأرسى مبدأ ألّا إكراه في الدين، أن يكون لديه تشريع يحمي عقيدة من ينتمي إليه ضد أي اعتداء تتعرض له.
الجهاد في اللغة: يعني المبالغة واستفراغ الجهد والطاقة، من قول أو فعل.
الجهاد أعمّ من القتال الحربي المعروف؛ إذ كل ما يبذل فيه المسلم وسعه وطاقته فيما يعود عليه وعلى دينه ومجتمعه بالنفع فهو جهاد، وعلى هذا فإن تعلُّم العلم جهاد، والعمل جهاد، والسعي على العيال جهاد، والسعي على الأرملة والمسكين جهاد، وهكذا مجاهدة النفس والشيطان والأعداء جهاد، والدعوة إلى الله عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة جهاد، …
بين القتال والجهاد شيء من الفارق، فإن الجهاد عند الفقهاء منصرِف إلى قتال الكفار خاصة، والقتال أعم منه، وقد نؤثر أن تستخدم لفظ القتال بدلًا عن الجهاد؛ لأنه هو المعنيّ بالحديث في هذه الجزئية، والمتأمل في الآيات التي شرعت القتال دفاعًا عن العقيدة يجد أن جميعها نزلت في المدينة، وبعد أن تعرض المسلمين لألوان من الأذى والاضطهاد في مرحلة استضعافهم في مكة.
قال الفقهاء الأصل في الجهاد -يعنون بذلك القتال المسلح- أنه فرض على الكفاية، بمعنى إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأنه ليس فرضًا متعينًا يجب على كل مسلم في كل وقت، ولكنهم قالوا: إنه يتعين في حالات استثنائية، منها: إذا التقى الزحفان والتقى الصفان، فيحرم على من حضر الوقعة الانصراف، ويتعين عليه البقاء.
ويتعين الجهاد إذا نزل الكفار ببلد، فإنه يتعيّن على أهل ذلك البلد أن يقاتلوهم وأن يدفعوا عن أنفسهم وعن دينهم، والموضع الثالث من تعين الجهاد إذا استنفر الإمام قومًا -أي طلبهم- للقتال، فإنه يلزمهم النفير معهم.
أعظم ظلم تعرّض له المسلمون فهو ما أفصح عنه قول الحق -تبارك وتعالى: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)).
القتال إذًا حين شُرِع كان له مسوغاته، ولا يشرع لمجرد الاعتداء ولكن لدفعه، ولإعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين.
من غايات تشريع القتال في الإسلام، وهي التدافع بين الناس التي يحمي الأديان كلها ويحقق التوازن والعمران في الأرض.
الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن الذين دخلوا في الإسلام عن طريق التجار الدعاة، كانوا أكثر من الذين دخلوا من خلال الجهاد والفتح الإسلامي، فالإسلام لا يرغب في القتال لمجرد القتال، وإنما لممارسة حق مشروع في إزالة هذه العوائق والموانع التي تمنع الناس وتحول بينهم وبين هدى الله -تبارك وتعالى، ولممارسة الحق المشروع في الدفاع عن العقيدة، وفي تأمين هذه الدعوة، ومع هذا فإنّ آيات الصفح والعفو والتسامح باقية إلى جوار آيات الجهاد إلى يوم القيامة، بل الأصل في تعاملنا مع غيرنا هو السلم، وليس بالضرورة أن يكون هو الحرب.
الردة في الاصطلاح الشرعي هي الرجوع عن الإسلام إلى الكفر.
اتفق الفقهاء على أن من ارتدّ عن دين الإسلام إلى غيره، فإنه يقتل بعد أن يستتاب، سواء أكانت ردته بالقول كأن يستهزئ بالله أو يكذّب برسوله، أو ينكر أمرًا مجمعًا عليه كالصلاة، أو يحل أمرًا مجمعًا على حرمته كالخمر، أم بالفعل كأن يلقي المصحف أو أن يدنسه، أو أن يسجد لصنم، وسواء في ذلك الرجل والمرأة، الذكر والأنثى، لكنهم اختلفوا في الاستتابة ومدتها، فأكثر أهل العلم على أن الاستتابة واجبة، ومدتها ثلاثة أيام، فإن تاب وإلّا قتل.
عقوبة الردة هي حماية لحق التديّن وليست اعتداء عليه، هذه حقيقة يجب أن تكون مستوعبة، ذلك أنّ اعتبار عقوبة الردة جريمة تستوجب أشد أنواع العقوبات في الإسلام، لا يعد اعتداءً على حق الإنسان في التدين.
يُعتبر أمر الحقوق الجنائية في الإسلام نورًا في جبين الشريعة الغراء، أيقظت به البشرية من طغيان الاستبداد، إن ما تكفله الشريعة من حقوق للمتهم في الدفاع عن نفسه، وما يتضمنه الشريعة من قواعد وأصول في الإثبات والإجراءات يُعتبر أمرًا من هذه الأمور التي تميَّزت به الشريعة الإسلامية.
لقد علَّمت الشريعة الإنسان كيف يحترم حقوقه في المحاكمات، وكيف أنه لا يجوز أن تلقى عليه التهم جزافًا، وأنه ينبغي أن يعامل معاملة الأحرار حتى تثبت إدانته، فيعامل عندئذ معاملة المذنبين. إن دولًا كثيرة تدَّعي أنها حضارية يقال لها اليوم: هل سمعتم خلال رحلة التاريخ كلها عن قانون يكفل للمتهم المعاملة الكريمة حتى تتم محاكمته إلا عندما انبثق الإسلام، وهل هنا من الشجاعة الأدبية ليعترف هؤلاء جميعًا بأن كل نور يظهر في سماء حقوق الإنسان إنما مصدره وأصله وأسّه هذه الشريعة الغراء، إننا حين نتحدث في هذه المحاضرة عن جانب من الحقوق الجنائية، وهو جانب وسائل الإثبات والاعتراف في الشريعة.
الإثبات في اللغة: من ثبت الشيء ثباتًا وثبوتًا أي: دام واستقرَّ، وفي الاصطلاح يستعمله الفقهاء على معنيين عام وخاص، والذي يتعلق ببحثنا هنا هو المعنى الخاص، والمعنى الخاص للإثبات عند الفقهاء أو عند القضاة: هو إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتَّب عليها آثار شرعية.
لا يجوز عندنا معاشر المسلمين أن يثبت الحق بطرق غير مشروعة، أو بأساليب غير أخلاقية.
محل الإثبات أيضًا له شروط: فمن هذه الشروط أن يكون معلومًا، فيشترط في محل الإثبات أن يكون معلومًا؛ لأن فائدة الإثبات هي الإلزام به من القاضي، ولا يتحقق الإلزام في المجهود إضافة إلى أن علم القاضي بالمحل شرط لصحة قضائه، ومن ثمَّ فيجب أن يكون المحل معلومًا مبينًا، كل بحسبه.
الوسيلة الأولى للإثبات: هي الشهادة، وهي تُعدّ من أهم وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية، وهي ركيزة عظيمة لحفظ الحقوق وصيانة الأرواح والأعراض.
قام فقهاء الإسلام بوضع الضوابط الخاصة بالشهادة من الأركان والشهود.
في اصطلاح الفقهاء الشهادة لها تعريفات كثيرة أكملها وأشملها: أنها إخبار الشخص بحق لغيره على غيره بلفظ أشهد، وذلك في مجلس القضاء. وقد اتفق الفقهاء على مشروعيتها واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة.
وللشهادة أركان، وأركانها خمسة: الشاهد، والمشهود له، والمشهود عليه، والمشهود به، والصيغة.
الإقرار لغة: هو الاعتراف وهو إظهار الحق لفظًا أو كتابة أو إشارة، وفي الاصطلاح: هو إخبار الشخص بحق على نفسه لآخر، والإقرار استفيدت مشروعيته من قديم كما قيل، الإقرار سيد الأدلة قديمًا وحديثًا، وهو الفيصل الحاسم في إنهاء نزاع أمام القاضي.
اليمين لغة: هي الحلف والقسم، وتعرف بأنها تأكيد ثبوت الحق أو نفيه باستشهاد الله تعالى أمام القاضي.
صيغة اليمين: اتفق الفقهاء على انعقادها بالقسم بالله تعالى، فبها يستحق صاحبها الحق أو يدفع ادعاء الآخرين عنه، ويجوز تغليظها بالزمان والمكان؛ زيادة في تأكيدها.
واليمين تنقسم باعتبار الحالف إلى يمين المدعى عليه ويمين المدعي، وتسمى يمين المدعى عليه باليمين الدافعة أو اليمين الأصلية، وهي التي يوجهها القاضي بناء على طلب المدعي إلى المدعى عليه، وذلك لتأكيد جوابه عن الدعوى وتقوية جانبه في موضوع النزاع، وسميت الدافعة؛ لأنها تدفع الدعوى عنه، والأصلية لأنها هي المقصود بها عند الإطلاق. وهي التي يدور عليها الحديث على اعتبار أنها وسيلة الإثبات تعريفًا وتفريعًا وأهمية.
وبعد هذا العرض لوسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية يتضح أن أنواع الحقوق في الشريعة أربعة أنواع: حقوق الله تعالى المحضة، وحقوق العباد المحضة، وما اجتمع في الحقان وحق العبد غالب، وما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب، أما حقوق الله تعالى المحضة فكحد الزنا والخمر والسرقة، هذه لا يجري فيها من وسائل الإثبات إلا ثلاث الشهادة، والاعتراف، والقرائن القوية في حالات محددة.
وأما حقوق العباد المحضة وهي ما تعلقت بها مصلحة دنيوية ويقبل فيها الصلح وتقبل المعاوضة والإسقاط والإباحة من صاحبها، وهي أكثر من أن تُحصى كالنقود والبيوع والشراء والمداينات، وغير ذلك مما يعد من أنواع المعاملات المالية، فهذه تجري فيها وسائل الإثبات بمختلف ألوانه.
ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب كالقصاص، وهذا لا يجري فيه من وسائل الإثبات إلا ثلاثة الشهادة، والاعتراف، والقرائن في باب القسامة بشرط وجود ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب كالأيمان والنذور والزكوات والصدقات، وغير ذلك.ويلاحظ من هذا التقسيم أن الشريعة الإسلامية أفسحت مجال حرية في حقوق العباد لخالصة؛ لكونها بنيت على المشاحة والمنازعة، فجعلت وسائل الإثبات في الحدود محددة وضيقة؛ لكونها مبنية على العفو والمسامحة، وقيضتها في الجنائيات كالقصاص، وأوجبت فيها الدقة والشدة والحزم، وذلك حفاظًا على الأرواح والأبدان، وقطعًا لداء الشك والظن. وللفائدة فإن وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية متنوعة ومتعددة لا تتقيد، ولا تنحصر؛ إذ مبناها تعليلي، وليس تعبدي، فالبينة: في الشريعة هي ما أبان الحق وأظهر من غير قصره على وسيلة دون أخرى
مراجع الدرس
أمير عبد العزيز، الإنسان في الإسلام، مؤسسة الرسالة – بيروت 1984 م. عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، التشريع الجنائي في الإسلام وحقوق الإنسان، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث عشر، الجزء الأول 2001 م. محمود الشرقاوي، الطفل في الإسلام، رابطة العالم الإسلامي، السنة 12 شعبان 1414 هـ. عبد اللطيف بن سعيد الغامدي، حقوق الإنسان في الإسلام، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية 2000 م. سهيل حسن الفتلاوي، حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، دار الفكر العربي للطباعة والنشر 2001 م. منصور الرفاعي محمد عبيد، حقوق الإنسان العامة في الإسلام، مركز الإسكندرية للكتاب 2007 م. أحمد جمال عبد العال، حقوق الإنسان في الإسلام، المكتبة الأزهرية للتراث 2000 م. أحمد محمد عركز، كرامة الإنسان وحقوقه في الإسلام، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر 2007 م. كامل الشريف، حقوق الإنسان والقضايا الكبرى، رابطة العالم الإسلامي 2000 م. أمير عبد العزيز ، افتراءات على الإسلام والمسلمين، دار السلام – القاهرة 2002 م. صالحة عابدين، حقوق المرأة في الإسلام، رابطة العالم الإسلامي 2000 م. البنك الإسلامي للتنمية، كتاب حقوق الإنسان في الإسلام، 2006 م. كمال جعيط، الإسلام وحقوق الإنسان في ضوء المتغيرات العالمية، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث عشر، الجزء الأول 2001 م. طاهر أحمد مولانا جمل الليل، حقوق الإنسان في الإسلام، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث عشر، الجزء الأول 2001 م. للمزيد من المعلومات عن الدرس، فضلا راجع ما يلي: الدرس 1 في كتاب المادة. المكتبة الرقمية. |
خاتمة الدّرس
بهذا نكون قد وصلنا أخي الدارس إلى ختام الدرس الخامس، فإلى لقاءٍ يتجدّد مع الدَّرس السادس، والّذي ينعقدُ بإذن الله، حول: والذي ينعقد بإذن الله حول:(حقوق المتهم في الدفاع عن نفسه). هذا، والله وليُّ التَّوفيق. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. |