8.2 المرأة في مجتمعات سادت وبادت
حقوق المرأة في الإسلام على مر التاريخ وتعاقب الأمم والحضارات
كانت المرأة ممسوخة الهوية فاقدة الأهلية منزوعة الحرية لا قيمة لها تذكر، أو لا شأن لها يعتبر، وحتى نقف على ما للمرأة من حقوق في الإسلام يحسن بنا أن نعرج، ولو قليلًا على حقوقها في مجتمعات سادت، ثم بادت فهي مثلًا في المجتمع الصيني متاع يباع ويشترى بل كانت مسلوبة الحقوق الحسية والمعنوية، وكانوا يعتبرون المرأة حين تولد شؤمًا نزل ببيت أبيها وكانت طوال حياتها تخضع لطاعات ثلاث:
طاعة أبيها مقدمةٌ ثم طاعة زوجها، ثم طاعة الأخ البِكْر الذي ينوب مناب والدها حين يغيب. يقول وول ديورانت في كتاب (قصة الحضارة): فهي تابعة للرجل تقضي عمرها في طاعته، كما كانت محرومة من كافة حقوقها الاجتماعية والمالية، بل إن الرجلَ هو الوَصِيُّ عليها في كل ذلك، كما كانت لا تستحق تعليمًا، ولا تثقيفًا، وكانت المرأة عندهم إذا تزوجت انتقلت إلى بيتِ زوجِهَا فتسميت باسمه، وكانت المرأة تسمى “فو” ومعناها خضوع، فهي كالعبد المملوك عند هذه الحضارة الصينية وإذا مات زوجها كان على أرملَتِهِ ألا تتزوج بعده، وكان يطلب إليهَا في بداية الأمر أن تحرِقَ نفسها تكريمًا له إلى هذا الحد بلغ بالمرأة ما بلغ من الذل، والاستعباد في هذه الحضارة الصينية القديمة.
ولم تكن أختها في الهند بأحسن حالًا منها، بل إن الكتب المقدسة عندهم جعلت المرأة دون الرجل منذ الخلق الأول في أساطيرهم القديمة قالوا: عندما خُلِقَ النساء فُرِضَ عليهن حب الفراش، والمقاعد والزينة، والشهوات الدنسة، والغضب، والتجرد من الشرف، وسوء السلوك؛ فالنساء دنيسات كالباطل نفسه تقول كتبهم وأساطيرهم وهذه قاعدة ثابتة.
ومما يدعوا للعجب: أن الهنود الذين عدوا المرأة مصدرًا للرذائل يجب إبعاده حولوا معابدهم إلى مراكزَ للدعارة، بل وقع هذا التناقض في مفاهيمهم الدينية؛ ففي كل معبد في “تَامِل” مجموعة من النساء المقدسات اللاتي يستخدمن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاعِ الكهنةِ، والبراهمة.
ونظرة بوذا للمرأة لا تختلف كثيرًا عن نظرَةِ أساطيرِ الهند؛ فقد اعتبر بوذا المرأةَ خطرًا على دعوتِهِ؛ لذلك نراهُ يترددُ كثيرًا في قبولِهَا لتكون من أتباعه. وقد سأله مرةً أحد خاصتِهِ، وهو ابن عمه آنذاك، فقال: كيف نعامل النساء أيها السيد؟ فقال: لا تنظر إليهن، ولكن إذا اضطررنا إلى النظر إليهن، لا تخاطبهن، ولكن إذا خاطبننا كن على حذر تامٍّ منهن.
فإذا انتقلنا إلى الفرس، وهي أمة حربية: نرى أنهم كانوا يفضلونَ الذكورَ على الإناث؛ لأن الذكورَ هم عمادُ الجيش، وآلة الحرب. وأما البنات: فإنهن ينشأن لغيرهم، ويستفيد منهن غير آبائهن؛ لذا كانوا لا يعبئوا بالمرأة على كل حال كانت عليه وكانت النساء تحت سلطة الرجل المطلقة الذي كان يحق له أن يحكم عليها بالموت، أو أن ينعم عليها بالحياة طبقًا لما يراه، ولِمَا تطيب به نفسه فكانت كالسلعة بين يديه.
أما الرومان: فقد ابتدءوا حياتَهُم بالمحافظةِ على نظامِ الأسرةِ، وعلى معايير الشرف تمشيًا مع مستوى الأخلاق الذي كان مسيطرًا في بادئ أمرهم، وكانت الأم موضع تقديرٍ واحترامٍ، ولم تكن البغايا، ومن يعاشروهن موضع تقدير على الرغم من انتشارهن نسبيًّا في كبيرات المدن؛ ولمَّا تَوَغَّلَ الرومان في الحضارة رقت أخلاقهم تدريجيًّا، وأصبح الاختلاط وغشيان المنتديات، والحفلات منطلقًا لإبراز محاسن الأنثى، والتنافس في إرضائها أو إغوائها حتى كَثُرَ الفُحْشُ بين كبارِ العائلات بعد أن كانت تفاخر بحرص فتياتها على العفاف، ولم يَعُد لعقدِ الزواجِ عندهم معنى سوى أنه عقد مدني؛ لذا كان انفصام العرى يتم لأتفه الأسباب.
ونتيجة لهذا التفلت من القيود التي كانت تحافظ عليها الأسرة الرومانية تغيرت نظرتهم إلى العلاقة غير الشرعية؛ فكثر الزنا، وانتشر الخنا وعرف الرومان نوعًا من أنواع الزواج اسمه الزواج بالسيادة، وبه تدخل المرأة في سيادة زوجها، وتصير في حكم ابنته، وتنقطع صلتها بأسرتها الأولى، ولقد بلغ من سيادة زوجها عليها أن كانت تُحَال إليه إذا ما اتهمت بجريمة ليحاكمها فيعاقبها بنفسه، وكان له أن يحكم عليها بالإعدام في بعض التهم كالخيانة مثلًا، وكان إذا توفي عنها زوجها دخلت تحت وصايةِ أبنائه الذكور، أو إخوان زوجها أو أعمامه، ومن هنا يظهر أن المرأة في الحضارة الرومانية كانت مسلوبة الأهلية، بل مسلوبة الإنسانية والقانونية.
وعلى الرغم ِمن أن اليونانَ عُرِفُوا بأنَّهُم من أرْقَى الأممِ القديمة حضارة إلا أن المرأة كانت عندهم أنموذجًا يُمَثِّلُ مصدر مصائب الإنسان، ومنبع آلامه حتى أسموها -أي المرأة أسموها- رجزًا من عمل الشيطان، ومن عجب أن حكماءهم ومفكريهم الكبار كأرسطو لهم مقولات عجيبة يهولون فيها من شأن المرأة، ويضعون من قَدْرِهَا؛ لذا رأينا أرسطُو يقول مثلًا: إن الطبيعة لم تزودِ المرأةَ بأيِّ استعدادٍ عَقْلِيِّ يُعْتَدُّ به، ولذا يجب أن تقتصر تربيتها على شئونِ التدبيرِ المنزلي والأمومة والحضانة، وما إلى ذلك ثم يقول: ثلاث ليس لهم التصرف في أنفسهم العبد ليس له إرادة، والطفل له إرادة ناقصة، والمرأة لها إرادة وهي عاجزة.
فإذا انتقلنا إلى أفلاطون رائدِ المدرسة العقلية لم نجده أحسنَ فكرًا منه؛ فقد كان يضع النساء في مرتبة الأطفال والخدم، ويرى أن رجالهم أرقى منزلة من النساء ولذا فقد اقتصرت النساء في أثينا على الأعمال المنزلية وخدمة البيت وإن كنا في أسبرطة قد أعطين شيء من الحقوق المدنية.
وبالجملة فإن القانون اليوناني جرد المرأة من حقوقها المدنية، ووضعها تحت السيطرة المطلقة للرجل في مختلف مراحل حياتها، بل يعتبرها من ممتلكات ولي أمرها قبل زواجها، ومن ممتلكاتِ الزوجِ بعد الزواج فكانت كسقط المتاع.
فإذا انتقلنا عن هذه الحضارات القديمة إلى الديانةِ اليهوديةِ التي اصطبغت بسماتٍ صحراوية، فما بَرِحَت عاداتهم البدوية إلا أن كانت غلابة على أجيالهم المتعاقبة؛ ففي التوراة إشارة إلى أصلِهِنَّ الصحراوي ويؤكد هذا ما جاء على لسانِ يوسف -عليه السلام- حين ذكر نعم الله عليه وعلى أبويه حين جاء بهم؛ فقال: قال الله تعالى: (يوسف: 100) ولهذا قامت شريعة إسرائيل على ما يقتضيه نظام الأمة الحربية من خضوعِ المرأةِ للرجل، والرغبة في كثرة النسل الذي هو ضرورة من ضرورات الحرب التي لا تغني فيها النساء شيئًا.
رأينا اليهود يعدون المرأة لعنة، وأنها أغوت آدم -عليه السلام- وأنها كانت سببَ وقوعه في شِرَاكِ المعصية حتى لقد جاء عندهم في التوراة: “أن الرب سأل آدم هل أكلتَ من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ قال آدم: المرأة التي جعلتها معها هي أعطتني من الشجرة فأكلت”.
ولا شك أن هذا التحريف للكلم عن مواضعه؛ فالموقف من المرأة عند يهود هو موقف يتِّهِمُهَا منذ البداية فقد ورد في العهد القديم عندهم درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث، ولأطلب حكمة، وعقلًا ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون؛ فوجدت أَمَرَّ من الموت المرأة التي هي شباك، وقلبها شراك، ويداها قيود؛ وعليه فإن شرعة يهود جردت المرأة من معظم حقوقِهَا المدنية في مختلف مراحل حياتها جعلتها تحت وصاية أبيها وأهلها قبل الزواج، وتحت الزوج بعد الزواج وتجعلها في كلا الحالتين في منزلة الرقيق المملوك.
بل إنها أباحت للوالد إذا أعسر أن يبيع ابنته بيع الرقيق -عياذًا بالله- يؤكد ذلك ما جاء في سفر الخروج ما نصه: “وإذا باع رجل ابنته أمَةً لا تخرج كما يخرج العبيد، أي” لا تعتق بل تظل أمة مدى الحياة” والمتأمل لحال المرأة في المجتمع اليهودي يجدها لا تختلف عن المجتمعات البدائية -كما قدمنا- فهي مِلْكٌ يباع ويشترى حتى إنها لتباع لزوجها، فإذا مات عنها زوجها، ورثت كما تورث تركة الميت فلورثته أن يبيعها، وله أن يعضلها.
ومن ذلك ما جاء العهد القديم أيضًا في سفر التثنية إذا سكن أخوة معًا ومات واحد منهم، وليس له ابن فلا تصل المرأة أي امرأة الميت إلى خارج لرجل أجنبي أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة، ويقوم لها بواجب أخ الزوج، فبمجرد موت الزوج تصبح أرملته التي تسمى عند اليهود “يا با ما” زوجة تلقائيًّا لشقيق زوجِها أو لأخيه لأبيه؛ ولاسيما إذا لم تنجب لزوجها الأول ابنًا سواء رضيت بذلك أم كرهت، ولا تحل لأحد غيره ما دام حيًّا إلا إذا تبرأ منها.
وبدهِيٌّ أن المرأة التي تورث كالمتاع لا حق لها في الميراث فالقاعدة أن الرجل إذا مات وليس له أنباء؛ ورثه أخوته أو بنو عشيرته، أما النساء فلا نصيبَ لَهُنَّ مما ترك الرجل بل كن يرثن، ثم بعد فترة ورَّثَت التوراة البنت إذا لم يكن للأب أبناء ذكور على أن تتزوج رجلًا من عشيرتِه، كما جاء ذلك في بعض أسفارهم حتى إنهم قالوا: “وكل بنت ورثت نصيبًا من أسباط بني إسرائيل كل واحدٍ نصيب أبنائه”.
ثم إن المرأة عندهم غير طاهرة أبدًا من اليوم الذي تبدأ فيه بالشعور بأن عادتها الشهرية قد اقتربت، وحتى إذا لم يكن هناك أثرٌ ظاهر ورأيناهم ينهون الرجل عن لمسِ زوجته، ولا حتى بإصبعه الصغير، فلا يسمح له بأن يناولها شيئًا، ولا يسمح له بأن يتخذ يدها شيئًا، وليس له أن يؤاكلها، ولا أن يشاربها في بيتٍ واحدٍ؛ فكانت المرأةُ فيهم إذا حاضت انتُبِذَت خارجَ بيتها، فاتخذت غرفةً بعيدةً عن سكن زوجها تقيم في هذه الغرفة لا تؤاكِلُهُ، ولا تشارِبُهُ، ولا تجالِسُهُ حتى تطهر، وتخرج من عادتها؛ ومن هنا يظهر أن المرأة في اليهوديةِ المحرفةِ شرٌّ لا بد منه، وآفةٌ مرغوبٌ فيها، وإن كانت محبوبة؛ فهي محبوبة فتاكة.
ولم تكن المرأة في النصرانية بأحسن حالًا منها في اليهودية، فقد عدوها –أي: في النصرانية المحرفة- أصل الخطيئة، ورأس الشر؛ لأنها سبب كل الفساد وهي سبب خروج آدم من الجنة، وفي ذلك يقول صاحب كتاب المرأة في مختلفِ العصورِ كان لقصةِ آدمَ وحواءَ أشدَّ الأثر في الإساءة إلى المرأة في بعض عصور المسيحية.
فبعض الرجال قد ذهبوا إلى أن المرأة عون الشيطان في الأرض أليست هي التي أطاعت الشيطان، وعَصَتْ كلامَ اللهِ؛ فكانت المرأة نتيجةً لذلك مطالبة بنوعٍ من سلوكٍ معينٍ حتى وهي داخل الكنيسة؛ فقد أصدر بولس أوامر صارمة لأتباعه. وكما يقول صاحب كتاب (قصة الحضارة) لتصمت نساءكم في الكنائس؛ لأنه ليس مؤذنًا لهن أن يتكلمن، ولكن إذا كن يُرِدْنَ أن يتعلَّمْنَ شيئًا، فليسألن رجالهن في البيت؛ لأنه قبيحٌ بالنساءِ أن تتكَلَّمَ في الكنيسةِ؛ ولَقد وَصَمَتْ الكنيسةُ العلاقةَ الزوجيةَ بين الرجلِ والمرأةِ بالنجاسةِ؛ ولذا يجب أن تجتنب، ولو كانت عن طريقِ النكاحِ المشروع.
ومن هذه النظرة الدونية انتشرت الرهبانية فامتنع كثير من الرجال عن الزواج كما انتشرت نظرة الازدراء لمن يكشف عن زواجه؛ لأن علاقةَ الزواجِ مبنيةٌ عندهم على أمرٍ نجس، وإذا وقع الزواجُ فإن الكنيسة قد حرمت الطلاق مهما بلغ التباغض بين الزوجين والتضارب، وأقصى ما يمكن أن يتخِذَّ في مثلِ هذه الحال أن يفرق بينهما جسديًّا مع امتناعِ كُلٍّ منهما عن الزواج حتى يفرقَ بينهُمَا الموتُ.
في عام خمسمائة وواحد ثمانين من الميلاد عقد مجمع ماكون المشهور مؤتمرًا يبحث فيه بعض اللاهوتيين عن أصل المرأة وجنسها فهذا مجمع كنسي يبحث فيه رهبان الكنيسة عن أصل المرأة وعن جنسها، وهل هي جسد ذو روح يناط بها الخلاص والهلاك أو لا وهل لها أن تعبد الله كما يعبده الرجل أو لا؟
ومن هنا نعلمُ مقدارَ ما عَانَتِ المرأة في ظل حكم البشر سواء كانت المرأة في ظل حضارات قديمةٍ، وثنية، أو كانت في ظلِّ ديَانَات حرفت؛ فلقد طالها من الذُّلِّ والاحتقارِ، وألوان الصَّغَار حتى وصلت المرأة إلى الجاهلية العربية؛ فكانت في قمة ما يمكن أن توصف به امرأة من ذلٍّ، ومن صَغَارٍ في حياتها حتى تنفس نورُ الصباح ليغطي الكون، وتنال المرأةَ الشرعةُ المحمديةُ بكثيرٍ من التكريم والإعزاز، والتوقير والتقدير؛ فصارت المرأةُ شقيقةَ الرجل؛ كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: ((النساءُ شَقَائِقُ الرِّجَال)).
– المرأة في عصر الجاهلية الأولى:
نتحدث الآن عن الفترة التي كانت قبل بزوغ شمس الإسلام؛ لنُذَكِّرَ النساء، بمنة التحرير، تحرير المرأة في عصر الرسالة النبوية، تحرير المرأة من قيود الذل والإهانة، وما أضفي إليها، وما أعطيت من مكارمِ الأخلاقِ، ومحاسن الأحكام.
إذا تأملنا في جاهليةِ العربِ الأولى، وبحثنا عن مكانة المرأة؛ فإننا نرى العرب قد أبغَضُوا المرأة أيما بغض، حتى عبر القرآن عن بغضهم، وغضبهم إذا بشر أحدهم بمولودة أنثى، بقول الله -تبارك وتعالى: (النحل: 58، 59) وما ذكره -جل وعلا- في هذه الآيات الكريمات من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم؛ فكانوا يُؤْثِرُونَ موتَ البنت على حياتها، وعلى زواجها مهمَا عَظُمَ شأن زوجِهَا، وكَثُرَ مهرُهَا، وكانوا يقولون لمن يولد له بنت: “أمنكم الله عاركم، وكفاكم مؤنتها، وصهرت القبر” يعني: صارت إلى القبر؛ ولهذا روي لبعضهم شعرًا أنه قال:
لكل أبِ بنت يراعي شئونها ثلاثة أصهار إذا حمد السهرُ
فبعلٌ يراعِيهَا وخِدْر يكنها وقبرٌ يوارِيهَا وخيرهُم القَبْرُ
انظر: “وقبر يواريها وخيرهم القبر” يعلق الرازي على قول الله تعالى: قال: المعنى: أنه يصير متغيرًا تغير مغتم. ويقال لمن لَقِي مكروهًا قد اسوَدَّ وجهُهُ غمًّا وحزنًا؛ فالاسْوِدَادُ هنا كنايةً عن الغمِّ؛ ولأن الإنسان إذا قوي فرحُهُ، انشرح صدرُه، وانبسط قلبه، وظهر هذا على أساريره؛ فوصَلَ إلى قسمَاتِ وجهِه، وربما انتهى إلى أن يَأد هذه الفتاة، وهي حية.
والوأدُ كان من أعظمِ مخازي الجاهلية؛ حيثُ كانت الفتاةُ إذا بلغت مبلغًا تسعى فيها على قدميها، يحملها أبوها فيقول لأمها: زَيِّنِيهَا، أي: أذهب بها لزيارة أقربائها؛ فإذا فَعَلَتْ، وبلغت من السن مبلغًا ست سنين، حفر لها بئرًا في الصحراء؛ فإذا بلغ بها البئر، قال لها: انظري في هذه البئر ما فيها؟ فإذا أطَلَّتِ المسكينة برأسِهَا إلى ذلك البئر تنظر ما فيهِ دفعها أبوها من خلفِهَا فسقطت. ثم يبدأ في إهالة التراب حتى تستوي البئر بالأرض، وفيها فلذةُ كبدهِ.
وقيل: كانت الحاملُ إذا اقتربَ وضعُهَا حُفِرَت حفرةً، فتمخضت على رأس الحفرة، يعني: يكون مخاضُهَا على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتًا رُمِيَت البنتَ مباشرةً في تلك الحفرة، وإن ولدت ولدًا، أي: ذكرًا حبس هذا الولد وحُفِظَ.
لماذا كانوا يؤدون البنات؛ لكراهتهم لجنس الإناث، ولخوفهم من السبي وخوفهم من العار؛ فكانوا يخافون عليهن من السبي فكانوا يقتلونهن حمية وغيرة.
وقيل: إن أول من فعل ذلك هو قيس بن عاصم التميمي حين أغار عليه النعمانُ بن المنذر بعد أن منعته تميم الإتاوةَ؛ فحاربَهُم فسبى نسائهم، وأَسَرَ ابنَتَهُ، فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح فخيَّرَ ابنته؛ فاختارت زوجها؛ فآلى قيسُ بن عاصم على نفسِه ألَّا تُوْلَدَ له بنتٌ إلا دفنها حيةً، فتبعه العرب في ذلك، وروي أن قيسًا هذا وَأَدَ بضعَ عشرةَ بِنْتًا.
وكان من العرب فريقٌ يقتلونَ أولادَهُم مطلقًا، إما نفاسة منه على ما ينتقصه من مالِهِ، وإما من عدَمِ ما ينفقُهُ عليه. وقد ذكر ذلك القرآن الكريم في قول الله تعالى: (الأنعام: 151) وقال أيضًا: (الإسراء: 31).
ولم تخلُ تلكَ المجتمعات من أصحابِ قلوبٍ رحيمةٍ؛ استنقذوا البنات فممن خلد التاريخ اسمهم زيد بن عمر بن نفيل، وقد قال البخاري في (صحيحه) قال: قال الليث: كتب إلي هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: رأيت زيدَ بن عمرو بن نفيل قائمًا مُسْنِدًا ظهْرَهُ إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكُم على دينِ إبراهيمَ غيري، وكان يحي الموءودة. ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها؛ أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها؛ فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إذا شئتَ دفعتها إليك، وإذا شئت كفيتك مؤنتها.
وهذا آخَرُ قَدِمَ على النبي -صلى اللهُ عليهِ وآله وسلَّم- وهو صعصعة بن ناجية؛ فعرض النبيُّ عليه الإسلام، قال: فأسلمْتُ، وعلَّمَنِي آياتٍ من القرآن؛ فقلت: يا رسول الله، إني عملت أعمالًا في الجاهلية، فهل لي فيها من أجر؟ قال: وما عملت؟ قال: فقلت: ضلَّتْ ناقتان لي عشروان، فخرجت أبتغيهما على جمَلٍ لي، فَرُفِعَ لي بنيانٌ في فضاءٍ من الأرض؛ فقصدتُ قصدها، فوجدتُ في أحدهِمَا شيخًا كبيرًا، فقلت: هل احتسست ناقتين عشراوين؟ قال: وما نراهما، قلت: ليس ببن دارم، قال: قد أصيب ناقيتك ونتجنهما.
وقد نَعِشَ الله بهما أهل بيت من قومِكَ من العرب من مُضَر؛ فبينَمَا هو يخاطبني إذا نادت امرأةٌ من البيت الآخر قد ولدتُ، قال: وما ولدتِ؟ إن كان غلامًا، فقد شركنا في قومنا، وإن كانت جارية، فلقد دفناها، فقالت: جارية، فقلت: وما هذه الموءودة؟ فقال: ابنةٌ لي، فقلت: أنا اشتَرِيهَا منك، قال: يا أخا بني تميم، أتقول: أتبيع ابنتك. وقد أخبرتك أني رجلٌ من العرَبِ من مُضَر، فقلت: إني لأشتري منك رقَبَتَهَا، إنما أشتَرِي روحها، ألا تقتلها قال: بما تشتريها؟ قال: قلت: بناقتيَّ هاتين وولديهما، قال: وتزيدنُي بعيرك هذا؟ فقلت: نعم، على أن ترسل معي رسولًا؛ فإذا بلغت أهلي رددتُ إليك البعير ففعل؛ فلما بلغتُ أهلِي رددتُ إليه البعير، فلما كان في بعض الليل فَكَّرْتُ في نفسِي، فقلت: إن هذِهِ لمَكْرُمة ما سبقني إليها أحد من العرب.
وظهر الإسلام، وقد أحييت ثلاثمائة وستين من الموءودة، أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشرواين، وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((هذا بابٌ من البِرِّ، ولك أجرُهُ؛ إذ مَنَّ اللهُ عليكَ بالإسلام)).
قال عباد -وهو أحد رواة الحديث: هذا مصداقُ قولِ صعصعة -رضي الله عنه- قول الفرزدق:
وجَدِّي الَّذِي منعَ الوَائِدَتِ وَأَحْيَا الوَئِيدَ فَلَم يُوْئَدِ
إذًا كان هذا فاشيًا شائعًا من ظُلْمِ المرأةِ في الجاهلية، ولم يكتمل إحياءُ الموءودات إلا بعض بزوغ شمس البعثة المحمدية التي ضمن للمرأة حقها في الحياة فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
ولا نتعجب كثيرًا، ونحن نرى المرأةَ في الجاهليةِ مُهَانةً منذ نعومَةِ أظفارها، وحتى كبرت؛ لأن هذا يتفقُ مع أصلِ الجاهليةِ الفاسدِ الذي علق بقاء المرأة به ، والنكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، كما رَوَتْ عائشةُ زوجُ نبينَا -صلى الله عليه وآله وسلم- فنكاحٌ كنكاحِ الناسِ اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته، أو ابنته فيصدقها، ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضعي منه، ويعتزلها رجلها أو زوجها، ولا يمَسُّهَا أبدًا حتى يتبين حمْلُهَا، أي: من ذلك الرجل الذي تستبضع منه؛ فإذا تبين حمْلُهَا أصابها زوجُهَا إذا أحَبَّ، وإنما يفعلُ ذلك رغبة ًفي نجابَةِ الولدِ، فكان هذا النكاح نكَاحَ الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبُها، فإذا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عليها ليالٍ بعد أن تضعَ حمْلَهَا أرسلت إليهم؛ فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفْتُم الَّذي من أمرِكُم، وقد ولدتُ فهو ابنُك يا فلان تسمي من أحبت باسمِهِ؛ فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنعُ منه الرجل.
ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن راياتٍ تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت أحداهن، ووضعت حَمْلَهَا جمعوا لها ودعوا لها القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتطاط به، يعني: يلتحق به، ودُعِي ابنه لا يمتنع من ذلك؛ فلما بُعِثَ محمد -صلى الله عليه وسلم- بالحقِّ هَدَمَ نكاحَ الجاهليةِ كُلَّهُ إلا نكاحَ الناسِ اليوم.
وإذا تأملنا في الصورِ الثلاثِ الأخيرةِ، نرى مدى التدني، ومدى الفُحْشِ الذي كانت المرأة تُعَامَل به في جاهليتها، لا شك أنه نزول إلى البهيمية، وبُعْدٌ عن الإنسانية.
ومن الصور المخزية أيضًا: أن الرجل كان يرسل أمته لتزْنِي، فإذا فَعَلَتْ جعل عليها ضريبةً فيما أخَذَت لِقَاءَ الزنا؛ فلما جاء الإسلام نهى عن ذلك كله فأنزل الله تعالى: (النور: 33) وسبب نزول الآية ما أخرجه مسلم من حديث جابر أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها: نسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرهوهما على الزنا؛ فشكتا ذلك إلى نبيِّ الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى الآية.
ولم يقتصر نهي القرآن عن الإكراه على الزنا فحسب، بل عَمَّ جميع الصورِ سواء كانت الفتاة مكرهةً أم لا، وأما قوله تعالى: فليس هذا بشرط، وإنما ذَكَرَ اللهُ -تبارك وتعالى- إرادة التحصن من المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصدق عليه الإكراه، وأما إذا كانت راغبةً في الزنَا فإنها تمنع أيضًا؛ ولهذا قال أهل العلم: إذا أردن تحصنًا، هذا قيدٌ خرج مخرجَ الغالب، فلا مفهومَ لَهُ.
وإذا كان هذا هو حال المرأة وهي ابنة لرجل حي فكيف يكون حالها إذا مات أبوها وغاب عائِلُهَا، وعاشت بين ذُلِّ اليُتْمِّ من جهة، وذُلِّ قهر الجاهلية من جهةٍ أخرى.
أخرج البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- في قول الله تعالى: (النساء: 127) قالت -رضي الله تعالى عنها- هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها؛ فأشركته في مالِهِ حتى في العذب فيرغب أن ينكحها. ويكره أن يزوجها رجلًا فيُشْرِكُه في مالِهِ بما شركته فيعضلها، أي: يمنعها من الزواج فنزلت هذه الآية واللفظ للبخاري.
فاليتيمة عندهم مظلومةٌ سواء رغب في نكاحِها، أو رُغِبَ عن نكاحِهَا.
وتعدد الزوجات في الجاهلية الأولى، كان أمرًا لا ضابط له ولا رابط؛ فقد أسلم غيلان الدمشقي عن عشرِ نسوة؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أسلم: ((أمْسِك عَلَيكَ منهنَّ أربعًا، وسرِّح الباقِيَات)).
وفي حديثٍ آخر: أسلمت، وعندي ثماني نسوة؛ فذكرتُ ذلك للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((اختر منهن أربعًا)) وربما جَمَعَ الرجل بين الأختين، متناسيًا مشاعرَ الغيرة التي تكون عند الأنثى، وما يَجُرُّ هذا من هجْرٍ وقطيعةٍ حتى أخرج الإمام أحمد في (مسنده) وغيره من حديث الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أسلمت وتحتي أختان، فقال: ((اختر أيهما شئت، أو اختر أيتهُمَا شَئْتَ)) واللفظ للترمذي، يعني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبح له أن يجمع بين أختين فقال: ((اختر أيتهُمَا شِئْتَ فَأَمْسِك، والأخرى فَسَرِّحْ أو فَفَارِق)).
وأما حقوق المرأة المالية: فلم يكن مستغربًا أن تكونَ المرأةُ مسلوبةَ الحقوق، كيف لا، وهي التي قد أُهْدِرَت آدميتها أصلًا، وأُلْغِيَت إنسانيتها مطلقًا من قِبَلِ الجاهلية، وأحكامِهَا وأعرافِهَا.
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديثٍ طويلٍ لعمر -رضي الله تعالى عنه- فيه إيلاء رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من نسائِهِ شهرًا في هذا الحديث قول عمر: والله إن كنا في الجاهلية ما نَعُدَّ للنساءِ أمرًا حتى أنزل الله فيهنَّ ما أنزل، وقَسَمَ لَهُنَّ ما قَسَم.
وجاءت روايةٌ أخرى للحديث تبينُ مكانةَ النساء، قال الحافظ: وكنا معشرَ قريش نغلب النساء “هذا قول عمر يعلق عليه الحافظ ابن حجر، أي: نحكم عليهنَّ، ولا يحكمْنَ علينا بخلاف الأنصار، فكانوا بالعكس، وقد قال الله -تبارك وتعالى: (النساء: 19).
أخرج البخاريُّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها؛ فنزلت هذه الآية. وفي قوله: .
قال بعض أهل التفسير: كان الرجلُ في الجاهليةِ إذا مات، وكانت له زوجةٌ جاء ابنُهُ من غيرها، أو بعض أقاربه، فألقى ثوبَهُ على المرأة، وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله فثار أحق بها من سائر الناس، ومن نفسها؛ فإن شاء تزوجها بغيرِ صداقٍ إلا الصداق الأول الذي أصْدَقَهَا الميت، وإن شاء زوجها من إنسان آخر، وأخذ صداقها، ولم يعْطِهَا شيئًا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبَيَّنَ أن ذلك كله حرام.