Top
Image Alt

8.3 حقوق المرأة في الإسلام

  /  8.3 حقوق المرأة في الإسلام

8.3 حقوق المرأة في الإسلام

  أنواعٍ من تكريم الإسلام للمرأة

وبيان لكثير من هذه الحقوق التي شرفها ربها بها وأكرمها نبيها بها ولهذا فإننا سنتناول أولًا الحقوق الشرعية للمرأة، وهذا يتناول أهليةَ المرأةِ للتكليف، وحق المرأة في التعليم، وحق المرأة في أن تسأل، وأن تستفي، وأن تكون قادرة على التَّعَلُّمِ والتعليم، ثم نُفَنِّدُ بعضَ الشبهات التي أُثِيرَتْ حولَ النصوص الشرعية.

قدمنا: “أن النساء شقائق الرجال”، وأن كلَّ مَا ثَبَت في حقِّ الرَّجُلِ يثبت مثله تمامًا في حق المرأة إلا ما استثني، أو إلا ما بينت النصوص الشرعية أنه مختص بأحدهِمَا؛ فهذا يخرج عن القاعدة المستصحبة أصلًا من أن كل خطاب وُجِّهَ للرجل، فهو للمرأة، إلا ما دل دليل على اختصاصه بأحدهما.

وقبل أن نتناول هذه الحقوق لا بد أن نقيم الدليل أولًا على أهلية المرأة للتكليف، وعلى مساواتها للرجل في الحدود، ومساواتها للرجل في جزاء الدنيا والآخرة. فأما الأدلة التي تدلُّ على دخول المرأة في خطاب التكليف، فخطاب القرآن للنساءِ سواء كان هذا الخطاب بدخولهم ضِمْنَ الناسِ، كما في قوله تعالى:  (البقرة: 21) أو بدخلوهن في ضِمْنِ الذين امنوا كما قال الله:  (البقرة: 14) فالخطاب هنا لا يفرق بين رجلٍ وامرأةٍ، بين نساءٍ ولا رجالٍ.

وبتأمل قول الله تعالى:  (النساء: 1) دليل ظاهر على أن الخطاب إذا كان للناس أنه يتناول الرجال والنساء فإن يأيها الناس خطاب يستغرق عموم الجنس البشري، يعني: آدم وحواء، وهما أصلُ هذه البشريةِ، ومن تَنَاسَلَ من ذريتِهِمَا.

ومما يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه حديث أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- حين قالت: قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يُذْكَرُ الرجال؟ قالت: فلم يَرُعْنِي منه يومًا إلا ونداؤه على المنبر: “يا أيها الناس” قالت: وأنا أُسَرِّحُ رأسي، فلففت شعري، ثم دنوت من الباب، فجعلت سمعي عند الجريد فسمعته، يقول: ((إن الله -عز وجل- يقول:  (الأحزاب: 35))) فذكرت الآية.

في هذا الباب شاهد أيضًا من حديث أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيءٍ؛ فقال -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه الآية حين نزلت: .

وقد رأينا في كتابِ اللهِ تعالى النصَّ على ذِكْرِ النساءِ بعد الرجالِ؛ تنبيهًا على المساواةِ في التكليفِ؛ ففي حديثِ أم سلمةَ قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله -عز وجل:  (آل عمران: 195) هذا يدل على أن للمرأة أن تهاجر، كما أن على الرجل أن يهاجر أيضًا وهكذا يتوالَى الخطابُ القرآنيُّ، ينص على المرأة لإعطائِهَا مكانَهَا بجانب الرجل فيما هما فيه سواء من العلاقة بالله تعالى، أو من التكاليفِ أو من العباداتِ، أو مما أَلْزَمَ الله تعالى به الرجال والنساء على حَدٍّ سواء؛ ولهذا جاء في قول الله -عز وجل- ما يدل على أن كِلَا الجنسين مأمور بالامتثال؛ قال -جل من قائل:  (الأحزاب: 36).

وهذه الآية ورد في سببِ نُزُولها أنها نزلت في زينب بنت جحش -رضي الله عنها- وكانت بنتَ عمة رسول الله؛ فخَطَبَهَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرضيت، وظنَّت أنها يَخْطِبُهَا على نفسِه، فلما علمت أنه يخطبها على زيد بن حارثة أَبَتْ، وأنكَرَتْ؛ فأنزل الله تعالى:  وعلى كل حال؛ فإن العبرة في السياق القرآني بعموم لفظِهِ لَا بخصوصِ سبَبِهِ.

ولقد رأينا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يؤكد مسئوليةَ المرأةِ أمامَ اللهِ -تبارك وتعالى- كما في قول الله:  (الممتحنة: 12) هذه بيعة النساء، وهي تُوَازِي بيعةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- للرجال؛ فهي عينُ البيعة التي بايع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في مجلس: ((تبايعونِي عَلَى أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقُوا ولا تزنُوا، ولا تقتُلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانِ تفترونه بين أيديكُم، وأرجلِكُم، ولا تَعْصُوا في معروفٍ؛ فمن وفَّى منكُم فأجرُهُ على اللهِ، ومن أصاب من ذلك شيئًا؛ فَعُوقِبَ في الدنيا؛ فهو كفارةٌ لَهُ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستَرَهُ الله؛ فأمرُهُ إلى الله، إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعناه على ذلك. وهكذا توالت آيُ القرآن الكريم في حثِّ الرجال والنساء على التزامِ الأوامر.

وقد قال -جل من قائل:  (النور: 30، 31) وعليه فإن شروطَ تكليف المرأة التي أجمع فقهاء أهل الإسلام عليها هي الإسلام، والبلوغ، والعقل بلا تفرقة بين ذكر وأنثى، فمتى ما كانت المرأة بالغةً عاقلةً، فقد ثبتَتْ في حقِّهَا التكاليفُ الشرعية وهو إجماعٌ محققٌ مؤكدٌ بما تقدمَ من أدلةِ الكتابِ، وصحيحِ السنة.

فإذا انتقلنا إلى نقطة أخرى؛ فإننا نرى الوحي القرآني، والهدي النبوي ساوى بين المرأة والرجل في الحدود الشرعية؛ فحَدُّ السرقة، وحَدُّ القذف، وحَدُّ اللِّعَانِ، وحَدُّ الزنا كل هذه الحدود، يستوي فيها الرجل مع المرأة. ولقد رأينا في كتاب الله:  (المائدة: 38) وهذا يدل على أن القرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة حتى إذا سرقت المرأة المخزومية فأراد أسامة أن يشفع فيها عند رسول الله قال -صلى الله عليه وآله وسلم: ((وايم الله، لَوْ أنَّ فَاطِمَةَ بنتَ محمدٍ سَرَقَت قَطَعْتُ يَدَهَا)) وهذا لفظ البخاري. وقد زاد مسلم: قالت عائشة -يعني بعد أن قُطِعَتْ هذه المخزومية: فحسنت توبتُهَا بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك؛ فأرفعُ حَاجَتَهَا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

لماذا خَصَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته، وهي الشريفة الطاهرة المبرأة بضربِ المَثْلِ؛ لأنها أعزُّ أهلِهِ عندَهُ -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يكن بقي من بناتِهِ في حياة المصطفى إلا فاطمة، بل هي التي بقيت بعد موتِ أبيها -صلى الله عليه وآله- فأراد المبالغةَ في إثبات الحد واستواء المرأة مع الرجل في إقامة الحد على كل مكلف، وترك المحاباة على ذلك.

وقال شراح الحديث أيضًا: ولأن اسم السارقة قد وافق اسمها -عليها السلام- لأن المرأةَ المخزوميةَ كانت أيضًا تسمى فاطمة؛ فناسب أن يضرب المثل بها، فلمَّا تابت من خطيئتها، وأقيم عليها حدها، وحَسُنَتْ توبَتُهَا؛ صار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجتها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والحدودُ كفارةٌ لأصحابِهَا.

ومثل حد السرقة حد القذف، قال الله تعالى:  (النور: 4) وقد حفظ التاريخ لنا أنه قد جُلِدَ في عائشة -رضي الله تعالى عنها- حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش -رضي الله تعالى عنهم جميعًا- حين رَمُوا عائشة بما رموا من الإفك والبهتان، فلما وقع هذا من رجلينِ وامرأة، لما وقع هذا من حسان ومسطح وحمنة أقيم الحد على الثلاثة، وهذا يدل أيضًا على أن المرأة كالرجل في حَدِّ القذفِ فجلدت حمنة في عائشة -رضي الله تعالى عنهما.

وكذا حَدُّ اللعانِ يستوي فيه الرجل مع المرأة، وكذا حد الزنا فالزاني والزانية كلاهما يقام عليه حَدُّ الله تعالى لقوله -جل من قائل:  (النور: 2) فحَدُّ الزاني والزانية البكر جلد مائة، وقد نهي المؤمنون عن الرأفة، وأمر بإشهاد الطائفة، وأوجب النَّصُّ القرآني كون تلك الطائفة من المؤمنين؛ لأن الفاسق من صلحَاءِ قومِهِ أخجل، وأما الزاني المحصن، كما علمنا فحده الرجم.

وأخيرًا فإن النصوص الشرعية ساوت بين المرأة والرجل في جزاء الآخرة وقد قال الله:  (آل عمران: 195) وقال سبحانه: (محمد: 19) وقال في جزاء الآخرة:  (الفتح: 5، 6) فهذا دليل ظاهر بين على أن المرأة كالرجل في جزاء الآخرة.

حق المرأة في التعليم:

نرى أن حق المرأة في أن تتعلم هو كحقها في أن تحيا، هو كحقها في أن تعبد ربها -تبارك وتعالى- فإنها لا تتمكن من عبادَةِ ربها، ولا القيام بالواجبات التي فرض الله عليها حتى تتعَلَّم، وبين يدي حقِّهَا في التعليم نتناول الأحاديث النبوية، والأدلة الشرعية التي دلت على تأكيد مشروعية تعلم المرأة وتعليمها، ونعرج على عناية السلف الصالح بتعليم النساء، ونضرب أمثلةً وصورًا مشرقة للمرأة في طلب العلم، وننوه بحكم تعليم المرأة عند الفقهاء.

ومما لا شك فيه أن نصوص فضل العلم أكبر من أن يحاط بها، فهي أشهر من أن تذكر، وأعظم من أن تحصى. وقد قال الله تعالى لأهل الإسلام كافة  (المجادلة: 11) وجعل الله أهل العلم شهودًا على وحدانيته، وقرن شهادتهم بشهادتِهِ، وشهادة ملائكته، وفي هذا تزكية لأهل العلم؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول  (آل عمران: 18).

بلغ من شأن العلماء أن يكون فضلهم على من سواهم كفضل النبي -صلى الله عليه وآله- على أدنى أصحابه والنبي -صلى الله عليه وسلم- اعتنى بقضية العلم ما لم يعتني بغيرها من القضايا بل إن أول ما أنزل عليه  (العلق: 1) وكان أوائل ما أنزل عليه:  (القلم: 1، 2) كل هذا فيه تعظيم للعلم.

وقد قال الله  (الزمر: 4) والله -تبارك وتعالى- نسب تعليمَ الإنسان إلى نفسه، وامتنَّ عليه بذكره فقال -جل من قائل عليمًا:  (العلق: 1 – 5) فهذه افتتاحية وحي الله -تبارك وتعالى- النازل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-  ثم جاء التأكيد: .

ومن المُجْمَعِ عليه أن المرأة مسئولة عن عبادتها، عن صلاتها، عن صيامها عن حجها، وزكاة أموالها، وهذا بعد مسئوليتها عن صحة عقيدتها في ربها وفي كتابها، وفي نبيها، وهي مسئولة عن ذلك كله مسئوليةً شخصيةً، وقد أخرج البخاري من طريق أبي بردة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثةٌ لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبَيِّهِ، وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجلٌ كانت عنده أَمَة يطؤها، فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران)).

على هذا الحديث بوب البخاري بابًا في كتاب العلم، وسماه باب: تعليم الرجل أمته وأهله، ثم بوب عليه -رحمه الله- في كتاب العتق، بباب فضل من أدب جاريته وعلمها. وفي هذا الحديث قال ابن حجر: هذا يطابق ترجمة الباب؛ فإن باب تعليم الرجل أمته وأهله مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس_ إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله -صلى الله عليه وآله- هو آكد من الاعتناء بالإماء.

ومن حرص الإسلام على تعليم المرأة جعل الإمام يتولى هذه المهمة بنفسه، بل وفي المجامع العامة أيضًا ، ولقد رأيناه -صلى الله عليه وآله- كما أخرج ذلك البخاري ومسلم في غير ما حديث: ((أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ إلى النِّسَاءِ، فَأَمَرَهُنَّ ونَهَاهُنَّ وذكَّرَهُنَّ ووعظَهُنَّ)) من هذا اتفق البخاري ومسلم على إخراجِهِ من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بِلَال؛ فظن أنه لم يسمع فوعظهن، وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة ترمي بالقرط والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه)) واللفظ للبخاري.

وقد نبَّهَ الحافظ على ما ترجم له البخاري في هذا الحديث من باب عظة الإمام النساء وتعليمهن، قال: نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصًّا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم، ومن ينوب عنه، يعني: يعلم الرجل أهل بيته، ويعلم العَالِمُ المرأة الأجنبية عنه ويعلم الإمام النساءَ الأجنبيات عنه بالعظة، والتذكير والتعليم، والتأديب والتفقيه.

وفي هذا الحديث استحباب موعظة النساء وتذكيرهن بتقوى الله ومخافته والحظر من المعاصي والسيئات.

وقد فهم بعض السلف -رحمهم الله- من مناصحة النبي -صلى الله عليه وآله- للنساء: أنه يلزم على ولي الأمر أن يقوم بذلك حتى ذهب إلى هذا غيرُ واحد من السلف، وفيه أيضًا، أي: في هذا الحديث: أن من السنة ابتعاد النساء عن الرجال في مجالس العلم والذكر وغيرها التي يحضرها الجنسان في وقت واحد، كشهود صلاة العيد، واستماع الخطبة، وتخصيص النساء بمكانٍ معزولٍ عن الأجانب مع استتارهن بالحجابِ احتياطًا للحرمات، وصيانةً لفضول الفكر والنظر، ودرءًا للرِّيَبِ، ورعاية لحدود الله، وهذا أدب شريف في منع اختلاط النساء بالرجال في التعليم، وفيه ردٌّ بليغ على من ذهب إلى أنه يجوز الاختلاط في التعليم؛ فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عزل النساء في مصلى، ثم جاء إليهن فوعظهن عظةً خاصة بعد أن وعظ الرجال بعظته العامة.

وقد قال ابن حجر في مجيء بلال رسول الله إلى النساء أدب شريف في مخاطبة النساء في الموعظة، أو الحِكَم، وهو ألا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهدٍ ونحوه؛ لأن بلالًا كان خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومتولي قبضَ الصدقة.

ولقد تنبهت المرأة زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى حقِّهَا في التعلم، فسألن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحق، ففي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: ((جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوم نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، قال -صلى الله عليه وآله: اجْتَمِعْنَا يوم كذا وكذا؛ فاجتمعنا فأتاهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن من امرأةٍ تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابًا من النار، فقالت امرأة: واثنين، واثنين، واثنين فقال رسول الله: واثنين واثنين)) وهذا لفظ مسلم؛ لذا بوب البخاري في (صحيحه) في كتاب العلم باب هل يجعل للنساء يوم على حدا في العلم.

قال الحافظ ابن حجر في اسم السائلة للموعظة: لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها وأرضاه- هذا يدل على الشجاعة الأدبية عند المرأةِ حين سألت حقَّهَا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- والحديثُ رسالةٌ للعلماء أن يعطوا من أوقاتهم وأنفسهم لمصانع للرجال، ومربيات الأبطال، وللمدارس الأُوَلَ التي يتلقى فيها الطفل مبادئ الحياة وأوائل العقيدة.

ورحم الله من قال:

هي الأخلاقُ تَنْبُتُ كالنبات إذا سُقِيَت بِمَاء المَكْرُمَاتِ

تقومُ إذَا تَعَهَّدَهَا المُرُبِّي عَلى سَاقِ الفضيلَةِ مُثْمِرَاتِ

ولم أَرَ للخلائقِ من مَحِلٍّ هذَّبَهَا كحضنِ الأمهاتِ

ولقد رأينا نبينا -صلى الله عليه وآله- يحرص على خروج النساء حتى ولو كنا حُيَّضًا إلى مجالس الذكر والتعليم؛ فكان -عليه الصلاة والسلام- يأمر بإخراج العواتق، وذوات الخدور، والحُيَّضَ؛ فضلًا عن الكبيرات صلاة العيدين ليشهدن جميعا الخير، ويشهدن دعوة المسلمين.

والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أم عطية -رضي الله تعالى عنها- قالت: ((أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحُيَّض، وذواتِ الخُدُور، فأما الحُيَّضُ فيعتزلن الصلاة، ويشهدنَ الخير، ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب فقال -صلى الله عليه وآله: لتلبسها أختها من جلبابها)) وهذا لفظ مسلم، وكن -رضي الله عنهن- حريصات على الحضور إلى المساجد، والسماع من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا لأنهن مخاطبات بطلب العلم الشرعي.

وهذه أم سلمة تقول: ((كنت أسمعُ الناسَ يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وآله- فلما كان يومًا من ذلك والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أيها الناس فقلت للجارية: استأخري عني قالت: إنما دعا الرجال، ولم يدعُ النساء، فقلت: إني من الناس، فقال رسول: إني لكم فَرَطٌ على الحوض، فإيَّايَ لَا يأتيني أحدكم، فيذب عني كَمَا يذب البعير الضال فأقول: فيم هذا؟! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقًا)) ففهمت أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعنيها، ويعني النساء في قوله: “يا أيها الناس” فقامت رضي الله عنها لتستمع العلم من رسول الله، ولتأخذ عنه ما ذكَّر به الناس، ومنهم النساء.

وقد حرص أسلافنا الصالحون على تعليمهن، وضربوا بذلك المثل الرائع، ولقد رأينا فقهاءنا يؤكدون على هذا الأمر يقول ابن الحاج: ينبغي -أي: لولي الأمر- أن يتفقد أهله بمسائل العلم فيما يحتاجون إليه؛ لأنه جاءت فضائل في تعليم غيرهم؛ طلبًا لثواب إرشادِهِم فخاصته، ومن تحت نظره آكد؛ لأنهم رعيته، ومن أخص الناس به، كما في الحديث: ((كُلُّكُم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته)) فيعطيهم نصيبهم فيبادروا لتعليمهم لآكد الأشياء في الدين أولًا وأنفعها وأعظمها، فيعلمهم الإيمان والإسلام، ويجدد عليهم علم ذلك، وإن كانوا قد علموه، ويعلمهم الإحسان، ويعلمهم الوضوء، والاغتسال إلى آخر كلامه، وما في ذلك كله من الفرائضِ والسننِ والفضائل، وكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم الأهم فالأهم.

ولقد رأينا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يُسَوِّي بينِ الزوجِ والزوجةِ والولدِ والعبدِ، والأمة في هذه الصفات الجميلة فيقول: ((النساءُ شقَائِقُ الرِّجَال)).

ورأينا من قَبْلُ كتابَ الله الذي فيه:  (الأحزاب: 35).

ألا ترى إلى بنت سعيد بن المسيب -رضي الله عنها وعن أبيها- لما أن دخل بـها زوجها، وكان من طلبة والدها، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج فقالت له زوجه: إلى أين تريد؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علمَ سعيد.

وكذا ما رواه غيرُ واحد عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه كان يُقْرَئُ عليه (الموطأ) فإن لحن القارئ في حرفٍ أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب فيقول أبوها للقارئ: ارجع؛ الغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط.

وقد حكي عن أشهب: أنه كان في المدينة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز فقال لها: إذا كان عشيًّا حين يأتينا الخبز، فأتنا نعطك الثمن، قالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيعُ طعامِ بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية فقيل له: إنها جارية بنت مالك ابن أنس رحمه الله تعالى.

والمطالع لكتب التراجم يقف على كثيرٍ من المواقف المشرفة التي تدل على استجابة القوم لداعي الله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بل كُنَّ، أي: النساء ينبغن في العلم.

وقد جاء في ترجمة أبي بكر الكاشاني قصة تنبأ عن نبوغ بعض النساء في العلم فقالوا تفقه عليه الإمام أبو بكر السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل (التحفة) في الفقه وغيرها من كتب الأصول، وزوجه شيخه المذكور ابنته فاطمة الفقيهة العالمة، وقيل: إن سبب تزويجه ابنته، أنها كانت حسناء النساء، وكانت حفظت التحفة تصنيف والدها، وطلبها جماعةٌ من ملوك بلاد الروم؛ فامتنع والدُهَا، فجاء الكاشاني فلزم والدها، واشتغل عليه، وبرع في علمي الأصول، والفروع، وصنف كتابَ (البدائع)، وهو شرح (التحفة) فـ(بدائع الصنائع) من أعظم كتب الفقه الحنفي، فعرضه على شيخِهِ، فازداد فرحًا به وزوجه ابنته، وجعل مهرها منه ذلك الكتاب. فقال الفقهاء في عصره شرح تحفته وزوجه ابنته.

قال بعض العلماء في ترجمة السمرقندي: أن زوجها كان يخطئ فترده إلى الصواب، وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخطُّ أبيها، فلما تزوجت بصاحب (البدائع) كانت تخرج وعليها خطها، وخط أبيها، وخط زوجها، وهذه عائلة هي خاتمة أمراء المؤمنين في الحديث.

فالحافظ ابن حجر إمامُ الحديث النبوي يعرفه صغيرُ الطلبة وكبيرهم، وكتابه (فتح الباري) أثنى عليه علماء عصره، ومن أتى بعده، ولعل أبرز ثناء فيه وأوجزه، قول الشوكاني -رحمه الله- حين سئل أن يشرح الصحيح، فقال: ((لا هجرة بعد الفتح)).

هذا الإمام كانت له عناية فائقة أي ابن حجر بتدريس زوجاته وبناته الحديث النبوي، وبَرَّزَ في عائلته غير واحدة ممن أتقنت هذا العلم، واشتهرت بالرواية زمن ذلك أخته سِتُّ الركب بنت علي بن محمد بن حجر كانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذكاء أثني عليها، قال: كانت أمي بعد أمي، وذكر شيوخها وإجازاتها من مكة ودمشق، وبعلبك ومصر.

وقد ذكر السخاوي تحصيلها وإجازاتها، وأفاد أن لها ابنة اسمها موز، أخذت عن خالها ابن حجر، وأخذ عنها السخاوي، ولكنها لم تعمر، وماتت في حياة خالها، وصلى عليها -رحمهم الله تعالى- زوجته أُنْس ابنة القاضي كريم الدين بن عبد الكريم بن عبد العزيز، كان الحافظ ابن حجر حريصًا أشد الحرص على نشر العلم بين أهل بيته.

ومن أولئك اللائي تلقين عنه زوجنه أُنْس، وقد أسمعها من شيخه حافظ عصره عبد الرحيم العراقي الحديث المسلسل بالأولية، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلامة بن الكويك، وأجاز لها باستدعاء عدد من الحفاظ، منهم: أبو الخير بن الحافظ العلائي، وأبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ الذهبي، ولم تكن الاستدعاءات لها لتقتصر على المصريين فقط، بل من الشاميين والمكيين واليمنيين؛ لَمَعَ نجمُها في علم الرواية في حياة زوجها، وكان في بعض الأحايين يداعبها بقوله: قد صرتي شيخة، وكان زوجُهَا يُكِنُّ لها احترامًا كبيرًا لرعايتها للحديث، بل وحدَّثَت بحضور زوجها أمير المؤمنين في الحديث وشيخ الإسلام ابن حجر.

وقرأ عليها الفضلاء وكانت تحتفل بذلك وتكرم الحاضرين، خَرَّجَ لها السخاوي أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا، وقرأها عليها بحضور زوجها، وكانت كثيرة الإمداد للعلامة إبراهيم بن خضر بن أحمد العثماني الذي كان يقرأ لها (صحيح البخاري) في رجب وشعبان من كل سنة، وهكذا كانت عادتُهَا إلى قبيل رمضان بين يدي زوجها الحافظ، ولمَّا مات الحافظ -رحمه الله- قرأ لها سبطها يوسف بن شاهين، فلم تضبط له هفوة ولا زلة.

ابنة بن حجر -رحمه الله- زين خاتون التي اعتنى بها أبوها واستجاز لها في سنة ولادتها، وما بعدها، وأسمعها على شيوخه، كالعراقي والهيثمي، تعلمت القراءة والكتابة، وولدت يوسف بن شاهين المعروف بسبط ابن حجر الذي كانت له عناية بكتبِ جده، وكتب من آماليه وصنَّف ونسَخَ كل كتب ابن حجر، ولم تظهر لابنته زين خاتون رواية، ولم تُشْتَهر بذلك لوفاتها شابة سنة ثمانية وثلاث وثلاثين، أي: وعمرها واحد وثلاثين عام.

وابنته فرحة كذلك، وابنتاه فاطمة وعالية كلاهما استجَازَ لهما جماعةً من أهل العلم، وابنته رابعة، واسمعها على المراغي بمكة سنة خمس عشرة وثمانمائة، ولهذا كان هذا البيت بيتًا نبويًّا، بيتًا يُعْنَى بحديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فحرص الحافظ -رحمه الله- على نسوةِ بيتِهِ مع كثرة شغله، وتعدد مجالسه، ونفاثة أعماله، ومؤلفَاتِهِ؛ فلله دره -عليه رحمة الله تعالى.

وإذا احتجنا أن ننوه ببعضِ النساء من سلفنا الصالح؛ فإن هذا لا يغنينا، ولا يلهينا أن ننوه بالصحابيات الفضليات اللائي برزنَ في العلم، فكنا أئمة في هذا المجال، وعلى رأس هذا التاج المبارك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- المكثرة من رواية الحديث عن نبينا -صلى الله عليه وآله- بلغ عدةُ ما روت ألفان ومائتان وعشرة أحاديث، وحمل عنها ربْعُ الشريعة كما قال أبو عبد الله الحاكم.

وكانوا إذا استشكلوا شيئًا عنه -صلى الله عليه وسلم- رجعوا إلى عائشة حتى قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحابَ محمد أمرٌ قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.

وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقد برعت في العلم على اختلاف أنواعه ودروبه، سألها ابن أختها عروة ذات يوم، فقال لها: يا أُمَّتَاهُ لا أعجبُ من فقْهِكِ، أقول زوجة رسول الله، وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر، وأيام الناس، أقول: ابنةَ أبي بكر، وكان أعلمَ الناس، ولكن أعجبُ من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربتْ عائشة على منكبِهِ، وقالت: يا عُرُيَّه، إن رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- كان يسقم عند آخر عمره، فكانت تقْدُمُ وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، وكنتُ أعالجها فمن ثم، أي: من ثم عرفت الطب -رضي الله عنه.

ولا ننسى تلميذة عائشة عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الفقيهة الحجة، كثيرةَ العِلْمِ التي حدثت عن عائشة، وعن أم سلمة، قال لقاسم بن محمد لابن شهاب يومًا: يا غلام، أراك تحرص على طلبِ العلم، أفلا أدلك على وعائِهِ؟ قال: قلت: بلى، قال: عليك بعمرة؛ فإنها كانت في حجر عائشة، قال: فأتيتها فوجدتها بحرًا لا ينزف.

وقال عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة، واختلفوا في سنةِ وفاتها، فقيل: توفيت سنة ثمان وتسعين، وقيل: سنة ست ومائة.

وأخيرًا وقبل أن نغادر هذا المبحث نقول: إن حكم تعليم المرأة منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية؛ ففرض العين هو الذي تصلح به عبادتها وعقيدتها ومعاملتها، وسلوكها، وبها تحسن تدبير أمر بيتها ومنزلها، وتربية أولادها، وأما فرض الكفاية: فهو ما تحتاجُ إليه الأمة كالطب والتمريض والتعليم؛ فإن الأمة تحتاج إلى طبيبات لتطبب النساء، ولتقوم على الأطفال، ولتمرض النساء، وتحتاج الأمةُ إلى مدرسات لتعلم الفتيات؛ فيلزم عندئذٍ إعدادهن إعداد شرعيًّا وعلميًّا كافيًا؛ بحيث يقُمْنَ بفرض الكفاية في الأمة.

وأما الأعمال التي امتهنتها المرأة اليوم؛ مما لا يدخل تحتَ هذا المعنى أو مما هو محرمٌ بالأصالة، فإن هذا إزراء بالمرأة، ووقوع في إثم عظيم؛ فإن المرأة التي تحترف التمثيل، أو الرقص، أو الموسيقى باسم الفنون مثلًا إنها امرأة فقدت من حيائها، وأغضبت ربها، وخالفت أمر نبيها -صلى الله عليه وسلم- وهي تحيا بهذا حياةً بئيسةً تعيسةً لا استقرار فيها، ولا نهايةَ ترضى إلا أن يشاء الله -تبارك وتعالى- شيئًا.

وقد قال الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله: وإذا نظرنا إلى جنس انقسم إلى نوعين، فيجب أن نقول: إنه لم ينقسم إلى نوعين إلا لأداء مهمتين، وإلا لو كانت المهمة واحدة لظل الجنس واحدًا، ولم ينقسم إلى نوعين، فانقسامه إلى نوعين دلَّ على أن لكل نوع خصوصية في ذاته والجنس يجمعهما، وضرب لذلك مثلًا بالليل والنهار، كنوعين لجنسٍ واحدٍ هو الزمن هذا التنوع أدى لأن يكون لليل مهمة وهي السكن، وأن يكون للنهار مهمة وهي السعي والكدح، والرجل والمرأة بهذا الشكل نوعان لجنس وهو الإنسان، فكأن هناك أشياء تطلب من كل منهما كإنسان، وهذه فروض الأعيان.

وبعد ذلك أشياء تطلب من الرجل كرجل، وهذه لها خصوصيتها، ومن المرأة كمرأة، وهذه أيضًا  لها خصوصيتها؛ بحيث نستطيع أن نقول: إنهما كنوعين من الجنس لهما مهمات مشتركة كجنس، ومهمات مختلفة كنوعين؛ فيليق بالمرأة أن تعمل، وأن تتعلم ما يصلح لها في دينها، وما يصلح لها دنياها، ولا يليق بها أن تعلم، أو أن تتعلم، أو أن تعمل بما يعارض أنوثتها، ويناقض فطرتها، ويغضب ربها، ويهوي بها في مهاوي الردى عياذًا بالله -تبارك وتعالى.

أما كيفية تعليمها: فإن مشكلتها إنما جاءت من الاختلاط في مدرجات الجامعات، وفي فصول الدراسة في الثانويات، وفي الإعداديات في فترةِ المراهقة، وحين تصير هذه الفتاة في حالة من قلة المراقبةِ، وهنا يكمن الخطرُ منها، وعليها في آنٍ واحدٍ، وما دام أنه لا بد من تعليمها فلابد أيضًا  من منهج وطريقةٍ وسبيل يحقق الغاية من تعليمها، ويضمن السلامة لها في دينها، وفي دنياها، وبالله -تبارك وتعالى- التوفيق.

وعن ثبوت حق التعليم بالنسبة للمرأة يثبت لها حق الإفتاء، وحق الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وقد قال الإمام النووي -رحمه الله- في آداب الفُتْيَا: شرط المفتى كونه مكلفًا مسلمًا. ثقة مأمونًا؛ متنزهًا عن أسباب الفسقِ وخوارِمِ المروءة. فقيه النفس، سليم الذهن، رصينَ الفكْرِ، صحيح التصرف، والاستنباط، متيقظًا، سواء فيه الحر والعبد، والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فُهِمَت إشارته. وهذا يعني أن المفتي لا يشترط فيه الرجولة، كما لا تشترط فيه الحرية،ولا يشترط فيه الإبصار ولا النطق، فالمرأة يمكن أن تكون مفتية، بل نص ابن الصلاح فقال : لا يشترط في المفتي الحرية والذكورة.

بل إن ابن القيم -رحمه الله- عَدَّ من المكثرين من الفتيا عد أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- ومن المتوسطين في الفتيا أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- ومن المقلين عد نسوة منهم: أم عطية، وأم المؤمنين صفية، وحفصة، وأم حبيبة، وليلى بنت قائف، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك، وطائفةٌ من نساء أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله- وممن جاء بعدهن.

وقد كان أصحابُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يؤمون بيت عائشة -رضي الله عنها- لسؤالها عن أحوال نبينا -صلى الله عليه وآله- ويستفتونها في أمور تتعلق بصلاة الليل، وتتعلق بغسل الجنابة، وبأمور كثيرة، حتى قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحابَ محمد -صلى الله عليه وسلم- حديثٌ قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا.

وقد ألف الزركشي -رحمه الله- مؤلَّفًا في استدراكات أم المؤمنين عائشة على الصحابة، سماه (الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة). ومن هنا يتضح أن للمرأة حقًّا في الفتيا، كما هي الحال للرجل لكن بعد توافر شروط الفتيا فيها؛ ولهذا قال ابن الصلاح: القول في شروط المفتي وصفاته، و أحكامه وآدابه، قال: أما شروطه وصفاته فهو أن يكون مكلفًا مسلمًا ثقة مأمونا منزهًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة. لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، وأن يكون فقيهَ النفس سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف، والاستنباط، إلى آخر كلامه.

ولا شك أن المرأة في هذا كالرجل سواء بسواء، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العباد -أو ينتزعه من العباد- ولكن يقبضُ العلمَ بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلوا)) وعليه فإنه متى تحققت الأهلية للمرأة أن تقوم بهذا الواجب، فلا حرج عليها، وهي بذلك تقوم بشيءٍ من فرض الكفاية الذي يطلب على مجموع الأمة.

وكما أن المرأة لها حقٌّ في التعليم والإفتاء، فلها حق أيضًا في أن تشارك في واجبِ الدعوة إلى الله، وهنا امرأة مباركة تسببت في هدايةِ قومها أجمع فهذا حديث عمران بن حصين عند البخاري ومسلم قال: كنا في سفرٍ مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وإنا أسرينا أي: سرنا ليلًا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، يعني: ناموا قال: فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان يسميهم بأسمائهم، فكان عمر بن الخطاب رابع من استيقظوا كان النبي -صلى الله عليه وآله- إذا نام لم يُوقَظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأن لا ندري ما يحدثُ له في نومه.

فلما استيقظ عمرُ، ورأى ما أصاب الناس، وكان رجل جليدًا فكبَّرَ، ورفَعَ صوته بالتكبير، فما زال يكبر، ويرفع صوته حتى استيقظ بصوته النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: ((لا ضير -أو قال: لا يضير، ارتحلوا، فارتحل فسار غير بعيدٍ فنزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى الناس، فلما انفتل من صلاته؛ إذ هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم قال أصابتني الجنابة، ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك)).

ثم سار النبي -صلى الله عليه وسلم- فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا كان يسميه أبو رجاء الراوي، ونسيه عوف، ودعا عليًّا فقال: اذهبا فابتغيا الماء فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين المزادة قربة كبيرة فيها جلد من غيرها، وتسمى أيضًا السطيحة، يعني: يوضع فيها فيها الماء قال: فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعيرٍ فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوف، قالا لها: انطلقي إذًا قالت: إلى أين؟ قالا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله- قالت: الذي يقال له الصادق؟ قالا: هو الذي تعنين؛ فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي -صلى الله عليه وآله- وحدثاه الحديث فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين، وأوكأ أفواههما، ونودي في الناس اسقوا واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء.

وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، قال: ((اذهب، وأفرغه عليك، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، يعني: ما أخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- من هاتين المزادتين لم ينقصهُما شيئًا، ووقع تكثير الماء ببركة دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال النبي: ((اجمعوا لها فجمعوا لها ما بين عجوة ودقيقةٍ، وسويقةٍ حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئًا، يعني: ما أخذنا شيئًا من مائك الذي في مزادتيك، ولكن الله هو الذي أسقانا.

فأتت أهلها، وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصادق، ففعل كذا وكذا، فوالله أنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت: ما بين إصبعيها السبابة فرفعتهما إلى السماء -تعني: السماء والأرض، أي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسحر خلق الله ما بين السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقًّا.

فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، الصرم بمعنى مجموعة البيوت التي هي تسكنها، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا فهل لكم في الإسلام فأطاعوها فدخلوا الإسلام.

فمن فوائد هذا الحديث دور المرأة في دعوة قومها إلى الإسلام، وأنهم وأبوها فكان لها أثرٌ مبارك على قومها، ابتداء حين ترك المسلمون قتالهم استئلافًا لقلوبهم، ووفاء منهم؛ إذ كانت إحدى نسائهم سببًا في سُقْيَا المسلمين الماء مع أنهم ما رزءوها من ماءها شيئًا، بل عادت المزادتان أشد ملاءة، وزادوها من الطعام الذي جمعوه لها في ثوب ما بين عجوة ودقيقة وسويقة، وفي هذا معجزة ظاهرة من أعلام نبوة نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم.

ولما أسلمت أم سليم الأنصارية -رضي الله عنها- لم يرضَ بذلك زوجها مالك بن النضر، وأبدى عدم ارتياح للإسلام، فلم تبالِ -رضي الله عنها- وبدأت تلقن ابنهما الشهادتين.

روى أبو يعلى بإسناد صحيح من طريق إسحاق بن عبد الله عن جدته أم سليم -رضي الله عنها- أنها آمنت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: فجاء أبو أنس، وكان غائبًا، فقال: أصبوت؟ قالت: ما صبوت، ولكني آمنت بهذا الرجل، قالت: فجعلت تلقن أنسًا تشير إليه قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: ففعل، أي: أنس، قال: فيقول لها أبوه: لا تفسدي عليَّ ابني، فتقول: إني لا أفسده.

لقد أرادت أم سليم -رضي الله عنها- أن تنقذ صغيرها من الشرك، وأن تكون هي الداعيةُ الأولى له، ولم تأبَه بمصادمة أبيه، وأرادت أن تصحح فكره لما قال لها: أصبوت؟ قالت: ما صبوت ولكني آمنت بهذا الرجل.

ثم بدأت -رضي الله عنها- تلقن صغيرها دينه، فلله درها من امرأة، فهل من مشمرة من النساء للاقتداء بها -رضي الله تعالى عنها- ثم إنها هي التي عرضت الإسلام على زوجها مالك بن النضر، فلم تقف عند هذا الحدـ بل كما يقول الحافظ بن عبد البر -رحمه الله- كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنسا، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها، وعرضت الإسلام على زوجها فغضب عليها، وخرج إلى الشام فهلك هناك.

ثم لما أرادت أن تتزوج خطَّت السير والتراجم بمدادٍ من الذهب من هي أكرم النساء مهرًا؟ لقد كانت أم سليم -رضي الله عنها- التي ربت أنس على الإسلام هي أكرم النساء مهرًا ذلك أنها لما جاء أبو طلحة يخطبها قالت: إنه لا ينبغي لي أن أتزوج بمشرك، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم التي تعبدون ينحتها عبد آل فلان النجار، وأنكم لو أشعلتم فيها نارًا لاحترقت، قال: فانصرف عنها، وقد وقع في قلبه من ذلك موقعًا، وجعل لا يجيئها يومًا إلا قالت له ذلك.

وفي رواية أخرى: أنها قالت لأبي طلحة أليس تعلم أن إلهك الذي تعبد إنما هو شجرة تنبت من الأرض، وإنما نجَّرَهَا حبشيٌّ من بني فلان؟ قال: بلى، قالت: أما تستحي تسجد لشجرة تنبت من الأرض نجَّرَها حبشي بني فلان؟ قالت: فهل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأزوجك نفسي لا أريد منك صداقًا غيره، قال لها: دعيني حتى أنظر، قالت: فذهب فنظر، ثم جاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

قال أنسٌ: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل كافر، وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك؛ فإن تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره؛ فأسلم فكان ذلك مهره. قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرمَ مهرًا من أم سليم كان مهرهَا الإسلام فدخل بها أبو طلحة فولدت له. وهذا إسناده صحيح. كما أفاد ذلك الحافظ ابن حجر في (فتحه) -رحمه الله.

إذا تأملنا هذه القصة المباركة؛ وجدنا أم سليم اعتزت بدينها الإسلام، وتجلى ذلك في قولها لزوجها الأول ما صبوت، ولكني آمنت بهذا الرجل، تعني: رسول الله، ولما خاطبها خاطبها أبو طلحة يريد نكاحها، قالت: إنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، ورأيناها تصر على أن تلقن ابنها أنس الإسلام، وبادرت بعرض الإسلام على زوجها الأول حتى فارقها كارهًا للإسلام، ثم جعلت مهرها إسلام أبي طلحة -رضي الله تعالى عنه.

يقول أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناسُ عن النبي، وأبو طلحة بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُجَوِّبٌ عليه بجحفة له، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديدَ النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبو طلحة، قال: ويشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف، يُصِبْكَ سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ونفسي دون نفسك.

وإذا أردنا أن ننتقل إلى صفحات أخر فهذه أم حكيم بنت الحارث التي كانت سببا في إسلام زوجها عكرمة بن أبي جهل -رضي الله تعالى عنهما- أسلمت يوم الفتح، فاستأمنت النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجها، وكان عكرمة قد فَرَّ إلى اليمن فخرجت في طلبه فردَّتْهُ حتى أسلم. وهكذا يمضي جيل الصحابيات -رضي الله تعالى عنهن- معطرًا بأعظمِ وأفخمِ هذه القصص المباركة.

فإذا انتقلنا نقلة إلى معركة اليرموك ونظرنا دعوة المؤمنات المجاهدات إلى الثبات في المعركة فإن كتب التاريخ قد أوردت لنا من ذلك عجبًا، قال ابن كثير -رحمه الله: وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم وقتلوا خلقًا كثيرًا من الروم، وكنَّ من انهزم من المسلمين، ويقلنَ أين تذهبون، وتدعوننا للعلوج، فإذا زجرتهم، أي: امرأة من تلك لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى القتال: بل جعلت ابنة العاص تنادي: قبح الله وجه رجل يفر عن خليلته، وجعلت النساء يقُلن لبعولتهن: لستم لنا ببعول إن لم تمنعوا عنا الأعلاج، كان هذا ندائهن -رضي الله تعالى عنهن- يوم اليرموك حتى ثبت المسلمون في هذه المعركة ثباتًا عظيمًا.

نظرة هند بنت عتبة إلى أبي سفيان -رضي الله عنهما- وهو منهزم، فضربت وجه حصانِه بعمودها، وقالت: إلى أين يا ابن صخر ارجع إلى القتال وابذل مهجتك حتى يمحص الله عنك ما سلف من تحريضك على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

تأمل ما تقدم من بذل المرأة للجهاد، وتثبيتها لفحول المسلمين، وأبطالهم ليمضوا قُدُمًا نحو عدوهم، وليثخنوا من عدوهم في أرضهم، وليذهبوا غيظ قلوب المؤمنين، والذي أرسل محمدًا بالحق لا تعيش أمة في ذلٍّ كان نساؤها كنساء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه.

تلخص من هذا أن للمرأة حقًّا في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وليس الرجل بأقدر على البلاغ والبيان منها، بل هي أقدر منه على البلاغ والبيان في الأوساط النسائية. وقد رأينا المرأة الداعية تميز بين الأولويات في قضايا الدعوةِ النسائية، فتقدم الأهم على المهم، وهذا لا يتأتى لكثير من الرجال الدعاة، ثم إن المرأة الداعية لديها القدرةُ على التنبيه على الأخطاء الموجودةِ في المجتمع النسائي سواء منها ما يتعلق بالعقائد، أو العبادات أو السلوك، ثم إنها تقدر على الدعوة الفردية ما لا يقدر على ذلك الداعية المسلم، مما لا يمكن للرجل أن يقوم به في الغالب؛ استنادًا إلى تحريم خلوة الرجل بالمرأة إلى غير ذلك من الأسباب.

error: النص محمي !!